إن الجمهورية الجديدة المزمع إعلانها ليست منقطعة الصلة تماما عن الماضي.. فإذا كانت مصر من أعرق الدول حضاريا فقد آن أوان أن تعود إلى وجهها الحضاري التاريخي. الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة تحت عنوان يليق بها وتليق به: “دولة محترمة”. بغض النظر عن التوجهات السياسية والالتزامات الأيديولوجية. والتي هي دولة القانون والمؤسسات.
فقد آن أوان التخلص من “نظام التعبئة” الذي أرست تقاليده ومواريثه ثورة 23 يوليو كجزء متمم للبرنامج الثوري الذي تبنته –من ناحية واستجابة لصيحة العصر من ناحية أخري- والذي أورثته لكل النظم اللاحقه لها. رغم انقضاء مقتضياته وزوال عصره.. يدخل في ذلك:
1 – آن الأوان للاستغناء عن مصطلحات وصياغات “نظم التعبئة”. يأتي في المقدمة تلك الأساليب والمصطلحات التي تنطوي على التجهيل في مقام لا يجوز معه ذلك التوجه. من ذلك: أن يطلق على الرئيس اسم “القيادة السياسية” أو “مؤسسة الرئاسة” تجهيلاً لحقيقته وتلاعباً بالألفاظ والمصطلحات في أمر لا يحتمل التلاعب. أو اصطلاح: “الأجهزة السيادية” دون أي مبرر لإخفاء اسم الجهاز المعني. مع أنها جميعها أجهزة وطنية تقوم بجهود خارقة في مجالات عملها. ويدخل في ذلك طائفة من المصطلحات المعلبة المتواترة من نحو: المرحلة الدقيقة والمرحلة الحرجة وعنق الزجاجة والخطاب التاريحي والزيارة التاريخية والتركة الثقيلة!
2 – آن أوان التخلص من النزوع إلى التذرع بفكرة المؤامرة الدائمة على مصر. حيث تزعم كل النظم أن هناك من يتربص بمصر من مرحلة لأخرى. مع اختلاف المصدر. بما يوحي بأن هناك رئيسا أو جهازا أجنبيا ما أو أكثر يبدأ يومه بسؤال: ماذا سنفعل بمصر اليوم؟! وكأن هناك قصد مقصود نحو التآمر الأبدي عليها.
قد يكون هذا صحيحا مرة -من دولة أو أخرى- أو من مرحلة لأخرى. لكن من المهم تأكيد أن فكرة “المؤامرة الدائمة” ليست صحيحة على الإطلاق. فضلاً عن أن هذا هو وضع معظم دول العالم. أساس ذلك أن العلاقات الدولية تقوم على التنافس مع الدول الأخرى من أجل تحقيق المصلحة الوطنية. لكن ليس على أساس “المؤامرة”. إنما هناك خيارات واسعة للعلاقات مع دول العالم من التطابق في الأهداف والمصالح إلى التوافق إلى الاختلاف إلى التناقض إلى الصراع. وعلى هذا الأساس تصنع السياسات وتتخذ القرارات. وإلا لماذا تعين دول العالم وزارات الخارجية وأجهزة المخابرات إلا لرصد السياسات الأجنبية وما يتصل منها بالأعمال المعادية؟
ولقد رد علينا نائب وزير الدفاع الأمريكي ذات مرة في لقاء معه بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام قائلاً: “إن ما تسمونه المؤامرة الأمريكية نسميه نحن الخطط والبرامج التي تضعها الجهات المسؤولة لتحقيق مصالح الولايات المتحدة وحماية أمنها القومي”!
3 – آن الأوان لكي تتخلى مصر عن ما يشاهد في “نظم التعبئة” التي لا بد من تفكيك مواريثها ومعالمها. حتى تتحول إلى دولة طبيعية. على سبيل المثال يشارك الرئيس في العديد من المناسبات ويحضرها رئيس الوزراء وعدد كبير من الوزراء والمسئولين. من ذلك حشد عدد كبير من كبار المسئولين في الدولة بالمطار -مثلا- ليكونوا في استقبال أو توديع رئيس الدولة في حالات السفر. وحشد كبار المسئولين في المناسبات التي يحضرها الرئيس مثل الاحتفالات الوطنية وافتتاح المشروعات الكبرى.
إن ذلك الأسلوب لا يليق بمصر المستقبل كما أنه يشكل مخاطر لا حصر لها. لا فقط بسبب الإرهاب وإنما لا بد هنا من تذكر حادثة استشهاد وزير الدفاع أحمد بدوي ومعه 12 شهيدا من كبار قادة القوات المسلحة.
ورغم التنبيه الذي أعقب ذلك بعدم استخدام وسيلة نقل واحدة للقيادات العليا إلا أن 33 من خيرة شباب ضباط القوات المسلحة استشهدوا في حادث الطائرة المصرية بنيويورك. وكانوا في رحلة العودة بعد حضور دورة تدريبية رفيعة المستوى بالولايات المتحدة إلى جانب 22 من المدنيين.
كذلك فإن مثل هذه الحشود توحي بعدم أهمية الوقت لدى كبار المسئولين في الدولة. الذين يتركون أعمالهم ومسئولياتهم لحضور مثل هذه المناسبات بغير وظيفة ولا ضرورة. إنما يكفي عند الضرورة حضور مسئول كبير واحد. الرئيس أو رئيس الوزراء أو وزير. إلى جانب الوزير المسئول أو المختصين فقط.
إن التقاليد الأمريكية مثلاً تقضي بأن يكون مكتب نائب الرئيس في مكان بعيد عن مكتب الرئيس. وأحياناً غير معلوم. كما أنه لا يحضر أغلبية الاجتماعات التي يحضرها الرئيس. والمعنى واضح. مع ملاحظة أن الرئيس بايدن يلجأ إلى أسلوب غير مسبوق في هذا السياق على الإطلاق. حيث يحرص على وجود نائبة الرئيس من خلفه في عدد من المناسبات لسبب غير مفهوم.
4 – إن الرئيس يقوم بجهد هائل في دفع وتحريك جهاز الدولة من منطلق أنه إلى جانب مسئولياته الداخلية والخارجية فهو مهموم للغاية بدفع وتطوير عملية التنمية. وما يحقق مصالح وتطلعات المواطنين. كما يتجسد في “توجيهات الرئيس” التي تشمل كل مجالات العمل الوطني والتي ينقلها بصفة مستمرة تكاد تكون يومية إلى رئيس الوزراء وعدد من الوزراء وكبار المسئولين. من ثم شاع القول إن الرئيس يتحرك بسرعات أكبر بكثير من سرعات المسئولين الآخرين. فضلاً عن أن عددا من هؤلاء لا يقوم بواجباته كما يجب. وليس هذا هو الوضع المناسب بأي حال. لا شك في أن هذا التوجه يهدف إلى “مدح” الرئيس. وهو مدح مستحق. لكن الوجه الآخر للعملة ينطوى على “قدح” النظام برمته.
يرتبط بذلك أحد أوجه النقد التي توجه إلى “نظم التعبئة” ومن ضمنها النظام السياسي الذي أرست تقاليده ثورة 23 يوليو. والمستمر حتى الآن بغض النظر عن التغيرات الشكلية التي مر بها. من مرحلة إلى أخرى. والذي يذهب إلى أن رئيس الوزراء والوزراء في مثل هذه النظم مجرد سكرتارية للرئيس. وأن “مؤسسة الرئاسة” تكاد تتضمن مجلس وزراء فعليا ربما أكثر كفاءة.
إن الدستور ينص على أن الرئيس يتولى رئاسة الدولة وكذلك رئاسة السلطة التنفيذية. وبحكم هذه الصفة الثانية “يضع رئيس الجمهورية -بالاشتراك مع مجلس الوزراء- السياسة العامة للدولة. ويشرفان على تنفيذها على النحو المبين في الدستور”.
من ثم فإنه مما يساعد عملية التحول إلى دولة القانون والمؤسسات أن يحضر الرئيس مجلس الوزراء كلما رأى ذلك مناسبا مرة مثلاً كل أسبوعين أو كل شهر لعرض ما لديه من توجيهات. بحيث تجرى مناقشتها جماعيا. بما يحقق التنسيق الكامل بينها في ضوء الموازنة العامة للدولة التي يجري إقرارها في البرلمان. لأن بعض هذه التوجيهات يقتضي توفير اعتمادات مالية لم تكن مدرجة في الموازنة. من ثم يتفرغ الرئيس لمهامه الأخرى المقررة دستوريا. ويتحمل مجلس الوزراء مسئولياته. وبهذا تترسخ دولة القانون والمؤسسات ويتأكد أن السياسات تصنعها مؤسسات وتشريعات وقرارات.. لا توجيهات.
كذلك فقد آن الأوان لأن يتخلى كل من هؤلاء المسئولين الكبار عن وضع “السكرتارية” بمعنى من المعاني. أساس ذلك أن رئيس الوزراء والوزراء وغيرهم من كبار المسئولين لا ينطقون بحرف إلا بلازمة تسبقه: “حسب توجيهات الرئيس”!! إن من الطبيعي أنهم يعملون وفق توجيهات الرئيس بحكم أنه رئيسهم الأعلى. لكن ذلك يجري -أو ينبغي أن يجري- في مجال السياسات العليا. ومن خلال القنوات الدستورية والقانونية لعملهم. وفي مرحلة صنع السياسات والقرارات. أما في حال مخاطبة مجلس النواب أو الشعب أو وسائل الإعلام فإن من المطلوب من كل منهم أن يعبر عن ذاته وخبراته التي جاءت به إلى المنصب الذي يشغله. والمشكلة أن هذا التوجه لا يجري في اتجاه واحد إنما في الاتجاهين معا. حيث إن عددا من كبار المسئولين يقعدون دائما في انتظار “توجيهات الرئيس” أو يسعون لطلب هذه التوجيهات حتى يتحركوا!
هذه العبارة الخبيثة التي لا ينتبه المسئولون لمدى ما تحتويه من خطورة على وضع الرئيس وعلاقاته بشعبه كان ينبغي محوها من القاموس لأنها تعني أن الرئيس هو الذي يتحمل المسئولية عن تقديم الحلول. وهو نفسه الذي يتحمل المسئولية عن تأخرها.
وفي الحقيقة فإن كل ما تقدم يثير قضية بالغة الأهمية تتصل بمنصب الوزير بمصر بعد ثورة 23 يوليو. حيث تجري التفرقة بين الوزير السياسي والوزير التكنوقراطي. واعتماد النظام السياسي منذ ذلك الحين على الوزير التكنوقراطي بشكل أساسي. والذي يستقل عن الانتماءات الحزبية والسياسية ويبعد عن التوجهات الأيديولوجية والعقائدية. مع اعتماد صورة نمطية له تتفق مع وضعية السكرتير والموظف إلى حد كبير. ما تسبب في مشكلات لا حصر لها. مع العلم أن هذه التفرقة لا أساس لها في العلوم السياسية. لأن الوزير في أي نظام سياسي هو المسئول السياسي الأعلى في وزارته. وينبغي أن يكون كذلك. لهذا الاعتبار فقد شهدنا عددا كبيرا من “السياسيين” الذين عاصروا كل النظم السياسية في مصر منذ نصف قرن. وهللوا وكبروا لها رغم اختلاف توجهاتهم وأكلوا على موائدهم المتنوعة والمتباينة!
5 – ينبغي التخلي عن الإصرار على أن مصر لديها درجة عالية من المناعة ضد أي أزمات أو مشكلات عالمية. مثل الأزمة العالمية 2008. أو فيروس كورونا أو الحرب الروسية-الأوكرانية. دون أساس حقيقي ودون مبرر. أو استخراج شهادة حسن السير والسلوك من الخارج بحيث يجري الاحتفاء بما يصدر عن المؤسسات والمنظمات الدولية الاقتصادية والمالية بطريقة مبالغة. وأحيانا بطريقة انتقائية. بينما يجري تجاهلها -وأحيانا الهجوم عليها- إذا لم تكن بياناتها مواتية.
6 – آن أوان التخلص من كل ما يستعيد إلى الأذهان عقيدة “عبادة الفرد” والتوجه نحو “صناعة ديكتاتور”. لقد نشأت هذه العقيدة وذاك التوجه مع الثورة البلشفية وتبني النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي. حيث يجمع الحاكم بين خاصيتين أساسييتين: أولاهما – فردية السلطة، وثانيتهما – أبدية السلطة.
ولا شك في أن الارتباط بينهما كان من شأنه أن يجمع القائم على رأس الحكم سلطات السياسة والتشريع والتنفيذ في يديه. وأن يصبح مصدرًا للشرعية ومنبعًا للسلطة في المجتمع. وفي مجالات العمل السياسي والتشريعي والتنفيذي كافة. وقد تبلور هذا النمط على يد “لينين”. ثم ترسخ وتجذر على يد ستالين -ومن تبعهما- وشاع في مجموعة الدول الاشتراكية في العالم أجمع مع اختلاف في الدرجات والإنجازات. من نحو ماو تسي تونج وكيم إيل سونج وكاسترو وتيتو وتشاوشيسكو ونكروما وسيكوتوري وسوكارنو. كما شاع في الدول العربية التي تبنت النظام الاشتراكي من حيث الشكل من نحو هواري بومدين والقذافي والنميري وحافظ الأسد وصدام حسين.
أما في مصر فإن هذا النمط من ممارسة السلطة -القائم على فردية السلطة وأبديتها- فقد تفاقمت حدته نتيجةً التفاعل بين عاملين إضافيين:
أولهما – مواريث هرم السلطة الفرعوني المتراكم عبر العهود منذ فجر التاريخ. حيث “مصر أرض الطغيان” بتعبير العلامة جمال حمدان. والحاكم إله منفرد على قمة السلطة. بينما يتسلق العديد من الكهنة والسدنة على مدارجها.
السائد أن الحاكم هو فرعون مطلق فوق البشر أجمعين. كما أنه يملك البلاد والعباد. فهو حاكم النهر قبل البشر. وهو مصدر الخير والنماء. حتى لقد ذهب الرئيس السادات -بحق- إلى أنه آخر فرعون يحكم مصر! وفي الحقيقة فإن التقاليد الدينية سواء المسيحية أو الإسلامية قد رسخت هذه المواريث الفرعونية بما تسبغه على الحاكم من صفات “أبوية” تكاد تجعله “ظل الله على الأرض”!
وثانيهما – النظام السياسي الذي أرست قواعده ثورة 23 يوليو والمستمر حتى الآن بغض النظر عن المبررات التي فرضته. والتغيرات الشكلية التي مر بها من مرحلة إلى أخرى. والذي يجسد الظواهر الثلاث الأساسية لتلك الدول: ظاهرة دمج السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في يد واحدة حازمة. وظاهرة المركزية الشديدة في ممارسة السلطة. وظاهرة الاستغناء عن الحزبية عموما بغض النظر عن قيامها من حيث الشكل.
لقد تجلت هذه الظاهرة على يد جمال عبد الناصر قائد الثورة التاريخي لاعتبارات ذاتية وموضوعية. يأتي في مقدمتها الشرعية الثورية الوطنية والعربية والدولية – من ناحية. وطبيعة القيادة الكارزمية الفريدة – من ناحية ثانية. والإنجازات الضخمة التي تحققت في عهده الممتد على الخط من قناة السويس في الشمال إلى السد العالي في الجنوب – من ناحية ثالثة.
ورغم انتهاء عصر جمال عبد الناصر بكل ما كان يمثله بل وانتهاء عصر القيادات التاريخية من العالم بأجمعه فإن القيادات اللاحقة كلها تمسكت بهذه الظاهرة. ومارست تقاليدها وطقوسها رغم اختلاف المعطيات والمقومات والاعتبارات والإنجازات. ورغم رحيل الرجل وزوال عصره.
هكذا جاء الرئيس السادات من بعده فاستخدم النظام نفسه لتدشين سياسات مختلفة جذريا. لقد تم العدول في السبعينيات بالأسلوب ذاته الذي جرى به التغيير في الستينيات من خلال مؤسسة الرئاسة كمؤسسة وحيدة تسيطر عليها قبضة واحدة. وتتجمع لها كل خيوط التحريك في الدولة والمجتمع. وقد سار على دربه كل الرؤساء اللاحقون.
بل لقد بلغت هذه الظاهرة ذروتها على يد الرئيس محمد مرسي الذي جمع بين العاملين السابقين. المواريث الفرعونية والثورية -متمثلاً في الإعلان الدستوري الذي يكاد يقول وأستغفر الله: “أنا ربكم الأعلى فاعبدون”!
ارتبط ما تقدم بنمط غريب من التفاعل بين الرئيس والشعب بما في ذلك مجموعات النخبة. يتمثل في التوجه نحو “عبادة الفرد” و”صناعة الديكتاتور” وتغذية ميول أبدية السلطة وفرديتها. حتى إذا كان الرئيس غير راغب في ذلك.
لقد رفض الرئيس مبارك في بداية عهده أن يتولى رئاسة الحزب الوطني “ليكون رئيسا لكل المصريين”. لكنه في أواخر عهده لم يكن فقط على رأس ذلك الحزب بل شهد أكبر عملية تزوير في الانتخابات. بما في ذلك استبعاد الأحزاب المعارضة جميعها. وسخر من اعتراضهم قائلاً: “خلوهم يتسلوا”!! كما رفض أن يطلق على زوجته لقب “سيدة مصر الأولى”. لكنها في أواخر عهده أصبحت سيدة السيدات أجمعين!
فعلى الفور يتحول الرئيس إلى “زعيم” وتخلع عليه صفات وقدرات خارقة. بل وتكاد تجعل منه من جنس الرسل والأنبياء. ويصبح عصره سابقا على كل العصور. كما تصبح إنجازاته لا سابقة لها. وتماثل عشرات الأضعاف ما تحقق من قبله. وكل رئيس قد “ورث تركة ثقيلة” من العهد السابق لكنه كفيل بها! و”مات الملك عاش الملك”!!
والأخطر من ذلك أن ظروف ممارسة السلطة ونوع المسئوليات والتحديات كل ذلك قد رفع مثل هؤلاء الحكام إلى منزلة عليا فوق المنزلة الدستورية. وأكسبهم شرعية يتصورونها من جنس تاريخي. فتولدت عن هذه المنزلة علاقة من “نمط أبوي” بين “القادة” وبين الجماهير. وشاع لديهم فهم خاص لنوع المسئولية الملقاة على عاتقهم. وللطريقة “الفريدة” التي يحق لهم أن يمارسوا بها النفوذ. لا يتقيدون فيه بآجال زمنية ولا يطالبون بما يطالب به غيرهم من الحكام من التقيد بمرجع أو الالتزام بقانون. ولا يحاسبون حسابهم ولا تكون مقاصدهم عرضة لريبة ولا أفعالهم محلاً لجدال. من هنا فإن أكثر “الزعماء” العرب ينتحلون لأنفسهم أوصافًا تتصل بالقيادة والزعامة. وما يصاحبها من إلهام وقدرات خاصة تصل إلى حد “القداسة” و”العصمة” والارتفاع فوق احتمالات الخطأ.
ولا شك في أن وسائل الإعلام المختلفة تسهم بدور كبير فيما آل إليه وضع الرئيس في الدولة والمجتمع. وفي كل ما يتصل بترسيخ عقيدة “عبادة الفرد” والتوجه نحو “صناعة ديكتاتور” وتغذية ميول أبدية السلطة وفرديتها. ومن ثم فإن الجمهورية الجديدة تتطلب معالجة جذرية للتعامل مع رئيس الجمهورية وتغطية أخباره وأنشطته في وسائل الإعلام المختلفة.
كل ذلك لا يليق ولا يسقط إلا بقيام دولة القانون والمؤسسات. وكل ذلك في حاجة إلى “توجيه أخير” حازم وصارم من الرئيس السيسي نفسه. وليس من أي مسئول آخر إلى المسئولين كافة في مصر. لينهي “نظام التعبئة” بكل تقاليده ومواريثه. ويليق بمصر والجمهورية الجديدة. وهذا جوهر ما قصده الكاتب الكبير نجيب محفوظ حين طرح سؤاله: “أما آن للثورة أن تهدأ؟!”. وهو سؤال بالغ الدقة ويستحق الكثير من التأمل.