مفيد جداً بالطبع هذا الاصطفاف الوطني في وجه التهديد الذي يمثله سد النهضة الإثيوبي لحياة المصريين، وهذا هو المتوقع بكل تأكيد. فحياة المصريين وماءهم وغذاءهم في خطر. ولكن أشعر بالفزع من هذا التساهل في الدعوات التي أقرأها في الصحف وعلى مواقع التواصل الاجتماعي لتوجيه ضربة عسكرية لإثيوبيا دون التفكير في العواقب أو تأثير ذلك على المدى البعيد سواء في علاقتنا مع إثيوبيا نفسها حيث تنبع مياه نهر النيل، أو مع الدول الأفريقية والمجتمع الدولي ومؤسساته بشكل عام.
ولأن الرئيس عبد الفتاح السيسي كان صارما وواضحا في التأكيد على أن أمن مصر المائي “خط أحمر”، وأنه لن يتساهل في هذا الشأن، فكان من المتوقع أن تنطلق أبواق المؤيدين للرئيس لدعم موقفه والإشادة بتصريحاته. ولكن لأننا في مصر، ولابد من التجويد والمبالغة والمزايدة، فلم يكتف بعض هؤلاء المعلقين بالدعم والإشادة بالموقف الرسمي والهجوم الشرس على إثيوبيا والدعوة لضرب سد النهضة بالطائرات، بل امتد الأمر لوضع خطط عسكرية تفصيلية، بلغت حد الدعوة لاحتلال المنطقة التي يشغلها السد بالقرب من الحدود بين إثيوبيا والسودان الشقيق، وذلك لضمان أنهم لن يقوموا ببنائه من جديد أو إصلاحه.
من ناحية، هذه المقالات الغاضبة قد تكون مفيدة عندما تقوم السفارة الإثيوبية بترجمتها وإرسالها لأديس أبابا لكي يدرك السيد آبي أحمد رئيس الوزراء الأثيوبي مدى غضب المصريين واستعداد القاهرة للنظر في كل الخيارات المتاحة لحماية مصالحنا وحقوقنا المائية. ولكن عندما تتم ترجمة مقالات وآراء في صحف معروفة بقربها للحكومة، ولكتاب معروفين بدعمهم للخط الرسمي، يدعون لضرب السد بالطائرات صباحاً ومساءاً، فإن الأمر قد يلحق بمصر وموقفها التفاوضي ضررا كبيرا حيث إن أثيوبيا ستستغل هذه المقالات في المحافل الدولية، ومع الدول المؤثرة في العالم لكي تزعم أن مصر لديها نوايا عدوانية. ونكون بالتالي كما الدبة التي قتلت صاحبها.
وفي كلية الاعلام حيث أقوم بتدريس مادة الصحافة، فإننا نقول للطلبة أنه حتى كتاب الرأي لا بد أن يدعموا آراءهم ومواقفهم بحقائق ومعلومات، وأن دورهم ليس مجرد الاسترسال في ما تفيض به قريحتهم في لحظة صفا أو ارتقاء أو رغبة في التطبيل.
من المؤكد أن الصحفي ليس خبيرا في كل شيء، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالشؤون العسكرية أو الطبية والعلمية. وبالتالي حين يقرر كاتب الرأي تبني موقفا ما، فلا بد أن يكون مؤسسا على آراء خبراء ومختصين.
وفي قضية سد النهضة والضربة العسكرية، فإننا لا نتعامل هنا مع قضية البوركيني أو فتيات التوك توك أو قضايا سياسية أخرى كالموقف من الحريات والديمقراطية أو اقتصادية كأولويات الإنفاق والانحياز الاجتماعي، حيث ممكن أن تتعدد الآراء والمواقف بناء على التوجهات الشخصية لكل كاتبة أو كاتب.
ولذا فلا بد من الحذر الشديد سواء للحفاظ على المصداقية أمام القارئ أولعدم خلق أوهام تتعامل مع الضربة العسكرية لإثيوبيا وكأنها “شكة دبوس” تستطيع القوات المسلحة تنفيذها دون أية مشاكل او عواقب.
ورغم أنني شخصيا معارض للنظام الحالي لأسباب داخلية عدة، فإن أحد الأمور الأساسية التي لا أسمح لنفسي بالخوض فيها وضع خطط عسكرية للحرب في وقت يتولى فيه منصب الرئاسة وزير دفاع سابق. وبالتالي، إذا أرادت القوات المسلحة المصرية وضع خطط عسكرية لضرب إثيوبيا، فهذا مجالهم واختصاصهم، ومن المؤكد أنهم سيضعون في حسابهم كل الاعتبارات في هدوء. كما أن القيادة السياسية ستكون الأكثر قدرة ودراية بمواقف الأطراف الدولية ورد فعلها المحتمل قبل أن تقرر القيام بأي عمل عسكري.
سد النهضة.. نادر نورالدين يشرح ما الذي تفعله إثيوبيا في نهر النيل| حوار
ومقابل هذه الدعوات المتصاعدة للحرب ودق طبولها بكل استسهال، فالتالي هو مجرد دعوة للتفكير في بعض الجوانب التي ستلي الضربة ومدى سهولة تنفيذها. أولا، ماذا سيكون رد فعل إثيوبيا بعد توجيه أي ضربة محتملة؟ ولا يمكنني حتى التفكير في مقترح من قبيل احتلال جزء من الأراضي الإثيوبية حيث يقع السد حيث إن مصر لم تكن طوال تاريخها دولة محتلة.
كما أنه من المؤكد أنه في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد المصري من انكماش واضح بسبب آثار فيروس كورونا، كما هو حال كل دول العالم، وبلغت ديوننا الخارجية 130 مليار دولار، فإننا لن نتحمل تكاليف احتلال أراضي دولة أخرى تبعد عنا آلاف الكيلومترات.
الحرب عموما مكلفة، سواء من الناحية الاقتصادية، أو من ناحية العواقب السياسية. ثانيا، هل نحن واثقون من موافقة السودان الشقيق على استخدام أراضيه لتوجيه ضربة عسكرية لإثيوبيا؟ من الواضح أن الأوضاع السياسية لم تستقر بعد في السودان, للأسف. وهناك انقسامات وخلافات ظهرت للعلن بين المجلس العسكري الذي يرأسه عبدالفتاح البرهان, والحكومة المدنية التي يترأسها عبدالله حمدوك. هل من الممكن أن تؤدي مشاركة الجناح العسكري الحاكم مصر في توجيه ضربة لإثيوبيا إلى إثارة اضطرابات داخلية في السودان؟
ثالثا، هل لدى إثيوبيا القدرة على القيام بأي حماقة عسكرية تجاه مصر؟ لا شك أن القوات المسلحة المصرية ستضع ذلك في عين الاعتبار ولدينا، وفقا للتصريحات الرسمية، كافة وسائل ردع أي عدو خارجي من الاقتراب من أراضينا. ثم، رابعا، ماذا سنفعل إذا قامت إثيوبيا ببناء السد من جديد، أو قامت ببناء عشرات السدود ليس فقط لكي تقلل نسبة المياه التي تصل مصر، بل لمنع وصول أي مياه؟
ولأن إثيوبيا هي مقر الاتحاد الأفريقي، ولها علاقات قوية ولصيقة وتاريخية مع الكثير من الدول الأفريقية، فإنها ستحظى ولا شك بتعاطف واضح على المستوى الأفريقي بصفتها الضحية، مع تضخيم كل المزاعم حول عنصرية مصر والمصريين وتعاملها بدونية مع الدول الأفريقية، مع العودة لإبراز الفيديو الفضيحة الذي شارك فيه الرئيس الراحل محمد مرسي قبل أسابيع فقط من عزله إثر ثورة 30 يونيو 2013، والذي كان ينضح بكل التعبيرات العنصرية الفاضحة والتعامل مع إثيوبيا على أنها جمهورية موز مكونة من قبائل تعيش في غابات وتتقاتل سويا.
وهذا عامل خامس يجب التفكير فيه جيداً. فمن ضمن ما يحسب للرئيس السيسي منذ وصوله للرئاسة أنه سعى بجد وبنوايا صادقة من أجل إعادة بناء علاقة مصر مع الكثير من الدول الأفريقية.
أي ضربة عسكرية محتملة لأثيوبيا ستلحق ضررا بالغا بهذه العلاقات المتنامية مع أفريقيا والتي تحقق فوائد كثيرة للدول الإفريقية، ولمصر كذلك، بالتأكيد.
ثم نأتي للبعد الدولي. هل لدى مصر ما يكفي من التأييد من الدول المؤثرة في العالم، كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين وروسيا، لتوجيه ضربة عسكرية لأثيوبيا دون الخشية من العواقب؟ أصاب الكثير من المعلقين الفزع والغضب عندما سمعوا تعليقات المندوب الفرنسي لدى الأمم المتحدة والذي ترأس بلاده مجلس الأمن هذا الشهر عندما قال إن المجلس لا يستطيع القيام بشيء في النزاع بين مصر واثيوبيا بشأن سد النهضة. كان هذا تعليقاً واقعياً جداً وقراءة صحيحة لتركيبة مجلس الأمن، وبغض النظر عن الموقف الرسمي الفرنسي القريب عموما من مصر في العديد من القضايا الإقليمية، كما هو الحال في ليبيا أوفلسطين مثلا.
فالدول صاحبة الفيتو الخمسة، أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، لا تدعم التصعيد العسكري مع إثيوبيا، وفقا للتصريحات الرسمية. وإذا كان هناك بعض التعاطف الدولي مع الموقف المصري، وتفهم متزايد من قبل الإدارة الديمقراطية الحالية للرئيس الأمريكي جو بايدن للتأثير المدمر للسد على حياة المصريين، فإن التعاطف والتفهم سينقلبان ضد مصر في حال توجيه ضربة عسكرية.
البعض يكتب ويقول فليذهب المجتمع الدولي للجحيم، والعالم لا يعترف سوى بلغة القوة، ولنا في إسرائيل نموذجا. ولكن هل أصبحت إسرائيل المعتدية المحتلة التي وصلت سمعتها للحضيض حتى في أمريكا وأوروبا نموذجا يحتذى؟ هذه المواقف الحنجورية محزنة بقدر ما هي تلحق ضرر بالغ بالموقف المصري. فأحد الإنجازات التي حققتها مصر بصعوبة على مدى العقود الماضية أنها أصبحت طرفا مؤثرا في المجتمع الدولي في ضوء علاقاتها الجيدة مع الدول الكبرى في العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي نحصل منها كل عام على معونات عسكرية تبلغ قيمتها مليار و300 مليون دولار، إلى جانب كل ما تقدمه واشنطن من دعم للقاهرة في المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، للحصول على القروض التي لم يكن من الممكن للاقتصاد المصري أن يتعافى من دونها. هل سننتقل من خانة الدولة العاقلة التي تساهم في التوسط لحل نزاعات إقليمية إلى دولة تستخدم القوة العسكرية لحل خلافاتها؟ مطلوب فقط أن نفكر قليلا في هذا البعد الهام.
أخيرا، ما البديل للضربة العسكرية إذن؟ المزيد من الجهد على الصعيد الدولي لعزل إثيوبيا، التي تعاني أصلا من العزلة في أعقاب الحرب الوحشية التي قرر آبي أحمد شنها ضد إقليم تيجراي لتمرده على السلطة المركزية، وحيث تم ارتكاب جرائم حرب بشعة وفقا للعديد من التقارير المحلية والدولية. هذه الممارسات الاثيوبية دفعت واشنطن لفرض عقوبات على أديس أبابا، وذلك على الرغم من التعاطف الذي تحظى به داخل المؤسسات التشريعية الأمريكية، مجلسي النواب والشيوخ، خاصة من قبل أعضاء “اللوبي الأمريكي الأفريقي”، والذي كان له دور مؤثر للغاية في وصول بايدن للبيت الأبيض.
إثيوبيا ليست دولة عظمى، وتعاني العديد من المشاكل الداخلية تهدد مستقبل تماسكها كدولة متعددة الأعراق، ولا يمكنها تحدي العالم بأكمله بمفردها. فإثيوبيا ليست إسرائيل، ولا تمتلك الدعم الأعمى من قبل الولايات المتحدة. لتواصل مصر استخدام كل اتصالاتها وأوراقها في دفع الصين وروسيا، واللتين تربطهما بمصر رسميا علاقات إيجابية جدا، لدعم الموقف الرسمي في مجلس الأمن، بجانب المزيد من التفاهم مع الولايات المتحدة وأوروبا. أما الضربة العسكرية فلا يجب أن تكون فقط الخيار الأخير، ولكن خيار كريه يجب بذل كل الجهد لتجنبه. أما المعلقون وأصحاب الرأي فيكفيهم دعم الحقوق المصرية المشروعة من دون التورط في وضع خطط عسكرية تفصيلية لأن هذه ليست مهمتنا ولا وظيفتنا. حمى الله مصر وحمى نهر النيل العظيم.