دعوة الحوار السياسي كان من الطبيعي والمنطقي أن تثير عاصفة الجدل التي تابعناها خلال الأيام الأخيرة. وهو جدل برغم كل شيء أراه طبيعيا وصحيا أيضا.
سلوك السلطة الحالية طوال السنوات الماضية يجعل من دعوات القلق والتشكيك أمرا عاديا ومنطقيا.
أي حوار سياسي لا يسبقه أجواء مناسبة تمهد له وتبعث برسائل اطمئنان إلى كل الأطراف سيظل في مرمى نيران القلق والتشكيك. وسيستمر هدفا طبيعيا للخائفين وغير المقتنعين.
دعوة الحوار في حد ذاتها إيجابية إذا صدقت النيات وخلصت. وكان الهدف أن يكون الحوار هو البداية لانفتاح سياسي غاب طويلا عن هذا البلد.
هذا الانفتاح سيصبح جزءا من طرق مواجهة أزمات كبيرة وخطيرة تواجهها مصر. وفي النهاية يجب أن يكون الهدف من الحوار هو رسم الطريق لانتقال ديمقراطي حقيقي تأخر لسنوات.
في طريق بناء الثقة وخلق أجواء إيجابية وداعمة لأي حوار هناك خطوات لا بد منها قبل البداية:
أولها إطلاق الحريات العامة (الرأي والتعبير والاعتقاد والإعلام والتجمع السلمي والتظاهر السلمي). والتوقف تماما عن حصار الأصوات المعارضة أو ظهورها في الإعلام. وابتعاد الأجهزة الأمنية عن كل ما له علاقة بالنشاط السياسي السلمي. والتوقف عن حصار الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والمجتمع المدني. وإعلان أن العمل السياسي في مصر يخضع للقانون فقط. وتأكيد ضمان استقلال القضاء بشكل كامل.
هذا كلام يجب أن يسمعه المواطن على لسان أكبر المسؤولين في مصر. والتأكيد أن الحوار سيناقش كل هذه الموضوعات الهامة والحساسة للوصول إلى آليات وخطوات لتنفيذها. وهي رسالة ستصل إلى الجميع لتكشف أن الهدف من الحوار هو الوصول إلى حلول حقيقية لأزمات كبيرة ومستمرة منذ سنوات.
على درب بناء الأجواء الإيجابية نفسه قبل الحوار لا يمكن أبدا -كما أعتقد- تجاوز أزمة سجناء الرأي. فلا يمكن أن يقتنع الناس بجدية الحوار دون إطلاق سراح سجناء الرأي وكل سجين سياسي لم يتورط في ممارسة العنف. والمقصود هنا ليس إطلاق سراح مائة أو مائتين أو حتى ألف سجين. بل المقصود هو التأكيد والإعلان أن هناك رغبة جدية لدى السلطة للإفراج عن سجناء الرأي وتصفية هذا الملف بالكامل. بعد أن تحول إلى عبء حقيقي على البلد وسلامه الاجتماعي. وبعيدا عن عمل لجنة العفو ربما نحتاج إلى إصدار قانون بالعفو عن السجناء السياسين الذين لم يشاركوا في عمليات إرهابية أو يمارسوا العنف بأي صيغة. وأظن أن هذه الخطوة إن حدثت ستكون رسالة حقيقية تطمئن كل المتابعين والمهتمين بالبلد ومستقبله.
وعلى طريق خطوات بناء الأجواء الإيجابية -قبل الحوار- يجب التأكيد، قولا وفعلا، على حرية الصحافة والإعلام بشكل عام. والتوقف عن تدخل أجهزة الأمن في عمل الصحفيين والإعلاميين. ورفع كل صور حصار الرأي الآخر -المعارض- في وسائل الإعلام.
فالتسليم بأن البلد ملك لكل أبنائها وبأن الصحافة تعبر عن اتجاهات الرأي العام وتنشر كل الآراء ووجهات النظر هو أمر لازم قبل البدء في أي حوار.
والحقيقة أن حال الصحافة قد وصلت إلى درجة صعبة. فهي كما لو كانت تعيش أيامها الأخيرة قبل الموت إذا لم تكن قد ماتت بالفعل. وقد حدث هذا بسبب حصار قاس وغير مسبوق تعرض له الإعلام بشكل عام طوال السنوات الست الفائتة. فاختفى الرأي الآخر وأضحت الصحف تحمل العناوين والأخبار والوجوه ذاتها فهجرها القارئ غير نادم. باحثا عن منصات أخرى تروي ظمأه لمعرفة الحقيقة.
إعلان احترام الصحافة ودورها والرغبة في رفع القيود عنها سيحمل رسالة وبشرى طيبة. ولعل تقرير “مراسلون بلا حدود” الذي صدر أمس الأول وصنف مصر في المركز 168 من 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة يعد كاشفا لعمق الأزمة التي تعيشها الصحافة في مصر منذ سنوات.
وبالتأكيد لا يمكن بناء أجواء إيجابية قبل الحوار دون إعلان واضح وشفاف من الحكومة يكشف للمصريين واقعنا الاقتصادي بدقة. فالأزمة الاقتصادية الأخيرة خانقة بشدة. وضربت موجة الغلاء الناتجة عنها الطبقات الوسطى والفقيرة في الصميم. وبداية حل الأزمة يكون -في تقديري- بإعلان طبيعتها وتفاصيلها والبدء في البحث عن حلول غير تقليدية وسياسات جديدة مختلفة عن السياسات التي جربناها طوال الفترة الماضية. والتسليم من جانب السلطة بأن الحلول قد تستلزم وقف عدد من المشروعات الكبرى التي أنفقت عليها المليارات. وإعادة ترتيب الأولويات لتكون الصناعة والتصدير والصحة والتعليم في مقدمة الأولويات. والسماح لكل عقول مصر الاقتصادية بالمشاركة في طرح الحلول لهذه الأزمة الاقتصادية الصعبة. والتوقف الكامل عن التعامل مع صندوق النقد وبيع أصول الدولة. لا سيما لغير المصريين.
هذه شروط في تقديري لازمة لبناء أجواء إيجابية يستلزمها الحوار السياسي. وهي كلها في يد السلطة تستطيع أن تعلنها وأن تؤكد التزامها بها قبل الاتفاق على كل تفاصيلها وقت الحوار. وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنها جادة في خطوات التغيير السياسي والاقتصادي المطلوبة. وأن تلك الخطوات ستكون البداية لانتقال ديمقراطي حقيقي تستحقه مصر بعد أن تأخر لسنوات.