لا يجب مناقشة انسحاب الجيش السوداني من الحوار الوطني فقط أو أساسا في إطار الخلاف بين المكون المدني والعسكري، ولا الاكتفاء بالقول إنه مجرد مناورة من الفريق البرهان لإخفاء مسئوليته عن تدهور الوضع السياسي عقب انقلابه في 25 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي على المسار السياسي، إنما يجب أن ينظر له في إطار البيئة أو العوامل التي تساعد الجيش على التدخل في المسار السياسي بل وفي بعض الحالات تجعله حتميا وبحاضنة شعبية.
وإذا كان من الوارد أن تكون هناك “حسبه سياسية” وراء عدم مشاركة قائد الجيش السوادني في الحوار إلا أن الدلالة الأكبر هي محاولة وضع الكرة في ملعب القوى المدنية وكأن لسان حالة يقول “حلوا مشاكلكم أنتم أولا” أو ورونا ماذا أنتم فاعلون، والجيش سيقبل بمخرجات هذا الحوار.
بداية الأزمة واستمرارها
منذ قرار قائد الجيش السوداني الفريق البرهان بالانقلاب على المسار السياسي، والبلاد تعيش أزمة احتجاجات واسعة سقط فيها أكثر من مائة قتيل ومئات المصابين واخرها مظاهرات 30 يونيو/حزيران الماضية التي سقط فيها 9 قتلى من أبناء الشعب السوداني.
وبدا لافتا هذا الإصرار وهذه الصلابة التي تمتع بها الشعب السواني من أجل دفاعه عن الديمقراطية والدولة المدنية رغم الصعوبات الاقتصادية والأمنية. ومع ذلك فإنه لا يمكن اعتبار القوى الاحتجاجية والثورية تمثل كل المشهد السوادني حتى لو كانت في اللحظة الحالية الأكثر تأثيرا إلا أنه لا يمكن تجاهل وجود قوى أخرى تقليدية وقبلية وأحزاب محافظة وتاريخية بـ(حزب الأمة والاتحاد وغيرهما) جانب تيار الحرية والتغيير (التوافق الوطني) الذي يقوده مبارك أردول وجميعها لا تطالب بإقصاء الجيش.
في ظل هذه الأجواء حاولت الآلية الثلاثية التي تضم الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية والإيجاد الدخول في مفاوضات لحل الأزمة السودانية بالتوازي مع جهود المبعوث الأممي “فولكر بيرتس” وفشلت طوال الفترة الماضية أن تجد حلولا للأزمة، حتى أعلنت أمس تجميد جلسات الحوار الوطني بعد قرار الجيش عدم المشاركة.
لقد تعقد الوضع عقب قرارات البرهان في 25 أكتوبر فرفض قطاع مؤثر من قوى التغيير أن يدخل مع المؤسسة العسكرية في أي شراكة أو يقبل حتى بالتفاوض معها. خاصة مع سقوط عشرات الضحايا برصاص قوات الأمن.
والمؤكد أن شعار المجلس المركزي: “لا تفاوض لا شراكة لا مساومة” مع المجلس السيادي، وفي سياق آخر لا شرعية” يعقد المشهد السوادني، ويبعده عن أهم الجوانب المضيئة في الثورة السودانية. وهي قيمة التفاوض والشراكة بين الأطراف المختلفة. وهو ما أبعد عن البلاد خطر السقوط في الفوضى والتفكك والمواجهات الأهلية التي كانت في بعض الأحيان خطرا وشيكا، وإن رفض مبدأ التفاوض ليس فقط خيارا خاطئا إنما هو ينسف أحد عناصر نجاح ثورة ديسمبر.
والمؤكد أن قوى الأزمة في السودان ممثلة في المكون العسكري والمدني معا، تعاني من ضعف داخلي ومؤسسي كبير فالجيش السوداني يضم إلى جانب وحداته التقليدية وأفرعه المختلفة قوات منفصلة هي الدعم السريع. وغير وارد وغير ممكن أيضا دمجهما في مؤسسة عسكرية واحدة عبر مسار انتقالي مضطرب وغياب لسلطة منتخبة.
كما أن قوى الحرية والتغيير تعاني من انقسامات ومن ضعف مؤسسي هائل. فقد عرفت العديد من الانقسامات وبواطن الضعف طوال فنره شراكتها في الحكم من خلال حكومة حمدوك. فقد اعتبرت بعد فصائلها ورموزها أن هذه الحكومة لا تمثل الثورة بل أن بعد وزراءها شاركوا في مظاهرات ضد الحكومة نفسها. كما خرج منها تجمع المهنين والحزب الشيوعي ورفضوا دعم حكومة حمدوك. كما عاد وخرج منها تيار التوافق الوطني الذي اتخذ مواقف منفتحة تجاه المؤسسة العسكرية ويري إنه لابديل إلا الشراكة معها، في مواجهة تيار آخر يرفض أي تفاوض ويعتبرها “شراكة دم” ولا يري إلا مظاهرات الشارع والصوت الاحتجاجي كورقة ضغط على المكون العسكري.
والغريب أن ما تطرحه هذه القوى هو عكس كل خبرات النجاح التي شهدتها تجارب التغيير في العالم في النصف قرن الأخير بما فيها الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا الجنوبية، حيث استمر التفاوض بين العسكريين والقوى المطالبة بالدولة المدنية الديمقراطية ومن بينهم فصائل يسارية ثورية حتى آخر لحظة بل أعطيت ضمانات وخروج آمن لقادة عسكريين في أمريكا الجنوبية من أجل التخلي على السلطة وبناء المستقبل.
الخروج من الأزمة
قرار البرهان بعدم مشاركة الجيش في الحوار الوطني ليس قرار بريء تماما، إنما هو قرار كاشف لعمق الأزمة السودانية وإن رفضه أو قبوله لن يغير شيئا من الصورة التي يقول فيها البعض إنه لو انسحب الجيش من المجال السياسي ستحل كل المشاكل؟
والحقيقة أن الإجابة بلا، لأن تدخل الجيش في بعض الأحيان هو نتيجة “للفشل المدني” وإن عودة الحكم المدني يتطلب تقديم “أمارة” بالقدرة على الحكم وتقديم بدائل للسياسات القائمة. وهو لن يتم إلا عبر بناء مشروع سياسي وحزبي منظم ومؤسسي، وعدم الاكتفاء بالصوت الاحتجاجي والرافض.
قرار البرهان قد يكشف أزمة القوي المدنية ولكنه لن يحل أزمة السودان، ويمكن فهمه في إطار معركة النقاط الدائرة بين المكونين المدني والعسكري. فهو يقول لهم لقد عجزتم عن حل خلافاتكم واستمريتم منقسمين، إذًا المشكلة فيكم وليس في العسكريين.
لا يجب رفض التفاوض مع المكون العسكري، إنما يجب وضع خريطة طريق لأنهاء المرحلة الانتقالية وعدم المطالبة طوال تلك الفترة بإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية أو إشعارها كأنها مستهدفة في ذاتها رغم أن البلاد تعاني من تحديات أمنية وانقسامات عرقية وجهوية، وأزمة اقتصادية تجعل من المستحيل تخيل خروج الجيش من المشهد السياسي بقرار أو بمظاهرة إنما هي عملية سياسية متدرجة تتقدم فيها القوي المدنية في طريق بناء الدولة المدنية حين تنجح في بناء مؤسساتها السياسية القادرة على الحكم والإدارة.
مطلوب من القوى المدنية والأحزاب السياسية الكبرى مثل حزب الأمة وغيرها أن تتوافق على خريطة طريق تنهي المرحلة الانتقالية بنهاية هذا العام، والاتفاق على شكل النظام السياسي الجديد (رئاسي ديمقراطي) وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية تؤسس لشرعية نظام جديد قادر على إصلاح مؤسسات الدولة وفي القلب منها المؤسسة العسكرية والعلاقات المدنية العسكرية.