نقترب لنشعر بالدفء ونقتل الوحدة. نصف البعض بأنهم أقرب الناس. نجذب نحونا البعض ونقصي البعض. وبين القرب والبعد نتشكل وتتشكل علاقاتنا.
هل هناك مسافات آمنة؟
حين ندرس المصطلحات والتعريفات سرعان ما تسقط من أذهاننا بعد الانتهاء من الدراسة. والبعض بل ربما الكثير وجد أن كلمة تعريف أو مصطلح هو أمر حكر على الدراسة العلمية. وحياتنا تخلو من ذلك. والحقيقة أن الحياة العامة هي الأليق بضرورة وجود تعريفات واضحة لكل شيء. فالضبابية التي تسيطر على المفاهيم هي ما يقودنا إلى الخسارة والفقد والانكسار.
نسمع جملة “خلي فيه مسافة” من يستخدمونها يقصدون بها إبعاد شخص عن حياتهم. فوجود مسافة بينك وبين شخص في المخيلة الجمعية تعني أنه بعيد بصورة أو بأخرى وهذا عكس القرب الذي نصف به من نعتبرهم أحبّة.
المفترض من وجود المسافة هو وجود مساحة آمنة. منطقة يمكن التراجع خلالها والتفكير. فوجود مسافة بينك وبين الآخر لا يُشير إلى وجود خلاف. أو أنه من المبعدين بل إن هذه المسافة هي ضمان استمرار العلاقة. فهناك مسافات تحفظ البقاء وأخرى معدة سلفًا للبعد. فقط على المرء أن يُفكر لماذا يضع مسافة بينه وبين الآخر؟
ما بين القرب والبعد مسافة
ونحن نتحدث عن أهمية الوقوف على المفاهيم والتعريفات في حياتنا من الضرورة مراجعة مفاهيمنا عن القًرب. فالقرب كلمة فضفاضة وبينما نحن في مجتمعنا المصري والعربي بشكل عام يستخدم غالبيتنا اللغة استخدامات فضفاضة. فعلى سبيل المثال شاعت مؤخرًا كلمة “حبيبي” كنوع من التحية أو المجاملة. فيمكن أن يقوم أحدنا بأداء مهمة أو شراء غرض. وفي سياق حديثه يقول للطرف الآخر “حبيبي الله يخليك” أو “حبيبتي ربنا يسعدك” هذا الاستخدام الخاوي من المعنى والدلالة أبهت المفهوم الحقيقي للكلمة/المصطلح فمن يستطيع التيقن أن كلمة حبيبي/حبيبتي التي يسمعها من الطرف الآخر هي وصف حقيقي؟
نستخدم كلمة القرب بشكل مضاد لكلمة مسافة. على اعتبار أن المسافة حسب التعريف الاصطلاحي هي بعد في المكان. ومن ثم فإن الشخص البعيد ولو بشكل رمزي يقف في موضع عكس الشخص القريب. وهذا يجعل الكثير يصنفون العلاقات بقريب وبعيد. وكأن كل القرب واحد وكل البعد واحد.
بين قريب وقريب جدًا مسافة
الحقيقة أن التجارب الحياتية التي نسمعها أو نقرأ عنها تُشير دومًا إلى انقلاب غالبية الأشخاص الذين تم توصيفهم بقريب جدًا. فهذا القرب الشديد يُعمي الطرف الآخر. يرفع من سقف التوقعات. يُخرس اللغة ويجعل العتاب شأن نفسي. القرب الشديد هو ما يدمر العلاقات بشكل واقعي. تخيل أنك تمسك كتاب تقربه بشدة من عينيك فهل تستطيع القراءة؟
هذا المثال على بساطته موضح كيف يُعمينا القرب الشديد فلا نرى الإشارات. ولا نتوقع الأذى. بل إننا ننتظر دومًا المحبة والاحتفاء. فكما أننا لا نرى الإشارات الدالة على الأذى لا نتبين وجع المقربين. اعتقادًا بأن هذا القرب الشديد الذي نظنه هو تأشيرة بوح مطلق. وأن الآخر عليه فورًا أن يتوجه نحونا ليقر بخطيئته ويحكي عن وجعه ونحن نضع أيدينا على رأسه ونمسح عنه الهم.
القُرب الشديد يعطل الحواس وأحيانًا يصنع تشويشا عليها وليس بالضرورة أن الآخر هو الذي يخذلك. فأحيانا تكون أنت من يخذله بينما تقف أنت في خانة المظلومية تشكو منه.
فكرة أن يكون هناك شخص -أيا كان هذا الشخص- يعرف عنك كل شيء هو أمر موتر. يصنع قيودا في كل حركة وكل رد فعل. أن تمنح نفسك تمامًا للآخر يعرف كيف تُفكر وتشعر ماذا تفعل في كل لحظة فأنت تصنع سجنًا لك قبل أن يكون للطرف الآخر. وأيا كانت العلاقة صداقة “حب-زواج-عمل” فإن منح كل شيء هي فكرة غير موفقة خاصة إذا كان الآخر لا يتعامل بنفس الدرجة.
وجود مسافة بين الانسان ورفقته. مسافة تحتفظ فيها ببعض التفاصيل ليس بالضرورة أن تكون سرية. فقط أن تكون لديك أمور غير مشاعية. خزانة تخصك وحدك فأنت بذلك تصنع مساحة آمنة لصون العلاقة لخفض التوقعات وضعف أثر الخذلان. وجود مسافة تعني أن صفة المراقب العام التي ينتحلها بعضنا في العلاقات تخفت. فلا نصبح قيودًا على بعضنا. أن يشعر المرء في علاقته بالآخر بالحرية بما يجعله حرًا في البوح أو الإمساك. البعد أو القرب. من غير أن تترتب تبعات كبرى على سلوك الفرد اللحظي. فحين تكون لديك مسافة بينك وبين الشريك يمكن أن تصمت لفترة دون تقديم مبررات. أو تخرج وتمارس أنشطة اجتماعية برفقة آخرين دون صكوك غفران نحملها للطرف الآخر. باختصار المسافة تعني أنه لا امتلاك.
هالات الفرح التي تعلو رؤوسنا ونحن نصف شخصا بأنه قريب جدًا محض هالات زائفة. فرحة تحوي بذور الوجع وتضم كل وشايات الزمن ونبوءات الهجر حين نقترب علينا أن نحفظ مسافة للتراجع. مسافة تضمن المحبة والعتاب. مساحة تتحول لنافذة تجدد هواء العلاقات فلا تفسد. حين نقترب علينا أن نقف ونسأل أنفسنا ماذا نقصد بقريب وكيف نفهم القرب ونترك لأنفسنا مسافة حتى نرى.