تعرّفتُ على الدكتور جابر عصفور (1944-2021م) الناقد في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وبالتحديد في مرحلة الدراسات العليا بـ”دار العلوم”، كانت كتاباته بالنسبة لدارس تلقّى علوم البلاغة والنّقد القديم طوال سنوات الليسانس نقلة هائلة على مستوى الوعي والتّحديث المعرفيّ، كان “جابر عصفور” في ذلك الوقت مشغولًا إلى أقصى حد ومعه ثُلّة من أبناء جيله (الجيل الذَّهبيّ في النقد والثقافة العربية) بنقل المناهج الغربية، والتأليف فيها ومحاولة تبيئتها في ثقافتنا على مستوى التأليف والممارسة، بالإضافة إلى عنايته الأصيلة بإعادة قراءة التُّراث النّقديّ والبلاغيّ، وانشغاله على نحو خاص بـ”منهجية القراءة”، والمنهج كان ولم يزل معضلة المشتغلين بالتراث، ولعل كتابه “قراءة التراث النقدي” الذي ضمّ بين جنباته مقدمة “عصفور” المنهجية لقراءة التّراث أن يكون غير مسبوق؛ نظرًا لما تنطوي عليه -أي المقدمة- من وعي دقيق بطبيعة إنتاج التّراث من ناحية أولى، وانتباهها الشَّديد لمقاصده المتعددة من ناحية ثانية، وانشغالها غير المحدود بسياقات التّلقي من ناحية ثالثة، وأخيرًا، ما تنطوي عليه من حيويّة لا تجعلها قاصرة على النّقد الأدبيّ وحده، وإنما تتسع لغيره من حقول المعرفة التراثية.
كان التُّراث في نظر “جابر عصفور” موضوعًا للعمل الجاد والقراءة المتجددة التي تعيد الوعي به، وتطرح عليه همومنا ومشاكلنا، لا لكي تبحث فيه عن الجواب المطمئن، أو تفتش فيه عن المأوى للخائف المُفلس، وإنما لكي تواجه التراث بالسؤال تلو السؤال، فتثوّر الوعي به، وتفكّك أنساقه؛ أملًا في الانتقال به وبنا من الماضي إلى الحاضر، ومن الزّمان السّاكن إلى اللحظة الحيّة النابضة بالبحث والكشف.. كانت مقدمة “جابر عصفور” المنهجية شديدة الخصوصية، عميقة الجسارة.. لفتت انتباهنا إلى قيمة التراث من حيث هو كلّ متنوّع، تتعدد تجليات حقوله، ولكنها تتصل فيما بينها، فدعانا إلى قراءته بروح وثّابة ناقدة، لا تتضاءل أمامه، فتقع في دائرة الاجترار والتقليد، ولا تتضاءل أمام المعرفة الغربية فتفرضها على تراثها فرضًا، وتقسره على الاستجابة لها قسرًا.
لـ”جابر عصفور” وجوه كثيرة، فهو الأستاذ الأكاديميّ، وهو المثقف حامل لواء التنوير بعد رحيل كثير من أعلامه، ولا يتسع المقام هنا للحديث عن كتبه الفكرية والاجتماعية التي أنجزها في هذا الصَّدَد؛ فهي أشهر من أن أَدُلك عليها، (كما أنها لحسن الحظ متاحة على المواقع المختلفة). وهو مؤسس المركز القوميّ للترجمة الذي قام بأجلّ رسالة، وجسّد أحد أحلامنا المتعثرة منذ زمن أبي التنوير “رفاعة الطهطاوي”.. وجابر هو المترجم الحداثي الدقيق، وكاتب المقال اليومي والأسبوعي في كبريات الصحف المصرية والعربية، يشتبك من خلاله- بجسارة يُحسد عليها- مع الواقع العربي على مختلف مستوياته: الاجتماعية والسياسية والدينية والتاريخية.. وهو أخيرًا: جابر “الخوجه”، كما كان يحبُّ أن يلقب نفسه، في إشارة إلى اعتزازه الأصيل بكونه معلمًا.
قضى الله ألا أقترب من “جابر عصفور” إلا بعد أن بعد أن تخلّص من همومه الإدارية ثم همومه الوزارية، وتفرَّغ تمامًا لمهمته الأصيلة التي أحبها، أي الدرس والتعليم، ومتابعة ما يكتبه الجيل الجديد من نقد، فكان أن وقع كتابي “التراث السَّرْديّ في الرواية العربية الجديدة” بين يديه، وأراد أن يتعرف إلى صاحبه أكثر، فدعاني – متفضلًا- قبل أربعة أعوام مضت لزيارته في كلية الآداب جامعة القاهرة، على أن يكون اللقاء عقب انتهائه من محاضرته التي سوف يلقيها على طلبة الدراسات العليا، التي ستبدأ في السّادسة مساء اليوم المحدّد.
ذهبت إلى كلية الآداب بعد ساعة من الموعد، أي في تمام السّاعة السّابعة، فقد توقّعت أن تنتهي محاضرته بعد ساعة واحدة، كما هي العادة في مثل هذه المحاضرات النوعية، صعدتُ سلم كلية الآداب نصف الدائري، وعلى بسطته الوسطى واجهني التمثال النصفي الشهير للسيد عميد الأدب العربي “طه حسين”، وقفت أمامه دقيقة أردد في نفسي: رضي الله عنك يا إمام التنوير، وسيد التحديث ورسول السؤال القلق والرُّوح المتمردة الجسور.. !
استكملتُ صعودي حتى وصلت إلى قسم اللغة العربية، القسم الذي ترددت بين جنباته إضاءات أعلام التحديث في الثقافة العربية منذ اللحظة الأولى لإنشاء جامعة القاهرة. وعلى الباب وجدتُ العامل جالسًا في هدوء، وصوت الدكتور جابر ينبعث خفيضًا هادئًا القاعة التي يجلس العامل أمامها، استأذنته في فنجان قهوة، وبعد أن انتهيت منه سألته: متى ينتهي الدكتور من محاضرته؟ ردّ بهدوء وثقة: في السّاعة التاسعة تمامًا..أي بعد أكثر من ساعة ونصف من الآن..!
أعدتُ عليه السؤال مندهشًا: ثلاث ساعات كاملة؟
بلى..! في كل مرة يبدأ في السّادسة ولن ينتهي قبل التّاسعة..!
فقلت في نفسي: هذا كثير، ولا يمكنني الانتظار كل هذا الوقت، فكَّرتُ في الدخول والاستفادة من الوقت، فالمؤكد أن الجلوس مع طلّاب يعلِّمهم “جابر عصفور” عملٌ مفيد جدًا، طرقتُ الباب مستأذنًا، رحّب بي الدكتور، وأشار بالجلوس، فجلستُ إلى أقرب كرسيّ، وتابعتُ سير المحاضرة أو ما تبقى منها، وكان المشهد كالتّالي:
يجلس الدكتور جابر، وقد تجاوز السبعين من عمره المبارك، بين عشرة طلاب أو يزيدون قليلًا، وقد أعد كلُّ طالب منهم ورقةً بحثية مطوّلة عن إحدى الروايات الحديثة المتفق عليها مسبقًا بينه وبين أستاذه، يُقدِّم لها مقاربة مُعمَّقة وفق أحد المناهج النقدية الحديثة، فمثلًا: هذا يُقدّم مقاربة بنيوية، وذاك يُقدِّم مقاربة سيميولوجية…إلخ.
ويقوم كل طالب بقراءة ورقته بصوت مسموع وأداء منضبط، والدكتور جابر ينصتُ إليه بانتباه وتقدير بالغيْن، وكذلك يفعل باقي الطلاب، وبعد أن ينتهي الطالب من قراءته، يبدأ الأستاذ في تقديم ملاحظاته التي تتعلق بالمنهج تارة، وبالموضوع تارة ثانية، وحول قدرة الطالب على تنزيل المنهج على المادة المقروءة أخيرًا، ثم يوصيه بإعادة قراءة كتاب كذا أو كتاب كذا لأنه لاحظ خلالا في هذه النقطة أو اضطرابًا في هذا المفهوم أو ذاك.. وبعد أن ينتهي يشير إلى الطالب الذي يليه ليبدأ في تقديم ورقته، والدكتور عصفور يتابع بالطريقة نفسها التي جرت مع سابقه.
وعلى هذا النحو مضتْ المحاضرة، في هدوء ودقة، تسعف فيها “جابر عصفور” ذاكرةٌ حيّة، ومعرفة منضبطة بالروايات التي يدرسها طلابه، وبالتفاصيل الدقيقة للمناهج التي يقاربون من خلالها نصوصهم، وما أدراك ما المناهج المعاصرة، وما تعقيداتها الفكرية واللسانية..!
ظلّ “جابر عصفور” هكذا حتى انتهت المحاضرة، بالحيوية ذاتها التي بدأت بها، وبالتوصيات العامة التي هي خلاصة خبرة نصف قرن من الدرس والتحصيل والتعليم، والتكليفات التي يجب أن يعدها كل طالب استعدادًا للمحاضرة التالية… وهكذا حتى تجاوزت السّاعة التّاسعة بدقائق قليلة..!
وهنا، طلب مني الدكتور أن أستعد؛ فأنا مدعوّ لتناول العشاء معه في نادي الصيد القريب من الجامعة، وفي الطريق أخذت أفكر: ماذا لو قذفت بي الأقدار وعشت حياة الخوجه “جابر عصفور”؟ هل يمكنني أن أجلس كلّ هذه الساعات وأتابع كل هذه الأوراق، بمثل هذه الهمّة وتلك الحماسة؟ ومن أين يستمدّ هذا الرجل حيويته وصبره الطويل على طلابه؟ إن صحته وعمره المتقدم لا يتناسبان مع كل هذا الجهد الذي شاهدته وعاينته؟ ثم تذكرت حُبّه للتدريس واعتزازه بكونه خوجه.. فقلت: إنه يستمد طاقته من حُبّه لعمله وإخلاصه لثقافته، وهل دعاني الرجل إلى مقابلته إلا لأنه مخلص محبّ..؟!
ثم كثرت اللقاءات بعد ذلك، وتوالت الاتصالات، وفي كل مرة أتذكر مقولة يحيى حقي حين قال مباهيًا: إنه يشعر بالفخر لأنه يعيش في زمن نجيب محفوظ، وقلت لنفسي: وأنا أيضًا أشعر بالفخر لأني عشت في زمن “جابر عصفور”..!