هل تكفي كراهية السياسة الأمريكية في أنحاء كثيرة في العالم -خصوصا في منطقتنا -لتبرير هذا القدر الهائل من سوء الفهم لحقائق العلاقات الدولية، أو بالأحرى لحقائق الصراع على قمة العالم بين القوى الكبرى؟
مرة أخرى جاشت العواطف، وكادت العقول تزيغ ما بين من يتمنون هزيمة مذلة للولايات المتحدة أمام الصين في أزمة تايوان الأخيرة، وبين من يتوقعون حربا عالمية -طال بهم انتظارها- تنضم فيها الصين إلى روسيا لتخليص العالم من غطرسة القوة الأمريكية، وكأن حربا مثل هذه ستُبقي من يدق طبول النصر، أو تذر شيئا للاحتفال به، باعتباره انتصارا.
وبفرض أن القيادة الصينية كانت قد تهورت، فغزت تايوان، كما فعل الرئيس الروسي في أوكرانيا، ولم تعلن الولايات المتحدة الحرب دفاعا عن حلفائها التايوانيين، خلافا للمعلن رسميا من قبل عدة مرات، واكتفت بعقوبات ستكون بالضرورة أشمل وأعنف من العقوبات المفروضة علي روسيا، فإن العالم سيكون قد نجا حقا من محرقة نووية، ولكنه سيكون قد سقط في هوة دمار اقتصادي لا قاع لها، بدءا بالصين نفسها، بالنظر إلى حجم الاعتماد الاقتصادي في معظم أنحاء العالم على سلاسل الإمداد وشبكات التمويل الصينية، وبالنظر إلى حجم اعتماد الاقتصاد الصيني على التصدير إلى العالم الخارجي، بل واعتماد العالم بما فيه الصين نفسها علي صناعات تايوانية بعينها، خصوصا الرقائق الإلكترونية .
ربما يكون عوام الناس في منطقتنا معذورون في مبالغاتهم تلك، بما إننا متفقون على أن الجماهير المنفعلة بالحب والكراهية لا تفكر بعقلها، ولكن بأمانيها وغرائزها، أما أن نقرأ لدبلوماسيين وكتاب مصريين وعرب شطحات كهذه، فذلك خطأ لا يغتفر، سيما أنه لما يمض بعد من الوقت ما يكفي لكي ينسي بعضهم أو معظمهم وقوعهم في نفس الخطأ، بمجرد ما إن عبرت الدبابات الروسية حدود أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير/شباط الماضي، فها هي ذي ستة أشهر تنقضي دون أية دلائل على قرب ولادة المحور الصيني الروسي، ودون أية دلائل على ركوع الغرب الأمريكي الأوروبي، وأخيرا دون أية دلائل على نصر روسي ساحق يعيد أوكرانيا حكومة وشعبا وإقليما إلى الحظيرة الروسية، فضلا عن أن يكون ضربة البداية في استعادة الإمبراطورية السوفيتية، في حين تشير الدلائل جميعها إلى حرب استنزاف، أو لنقل حرب خنادق طويلة المدى ترهق اقتصاد ومعنويات الدب الروسي، بأكثر كثيرا مما ترهق الغرب بشطريه الأوروبي والأمريكي .
نعود إلى الأزمة المترتبة على زيارة السيدة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي إلى تايوان من حيث هي حالة دراسية نموذجية لفهم حقائق الصراع وتوازن القوة والمصالح بين أكبر قوتين دوليتين في عالم اليوم، وكيف أن كلا منهما لاتزال ملتزمة بالتوقف قبل فراسخ من السلك الشائك المحيط بحقل الألغام المتفق عليه بينهما، فمن حيث المبدأ لا أتفق مع تقارير واشنطن التي تحدثت عن معارضة البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية لزيارة بيلوسي لتايوان، فهذا ليس أكثر من توزيع أدوار تقليدي بين مؤسسات صنع السياسة الخارجية الأمريكية في سياق لعبة مزدوجة، تطمئن حلفاء واشنطن في تايوان نفسها وفي سائر الباسيفيك من -ناحية- على أن المواجهة مع بوتين في أوروبا لا تثني -ولن تثني- الولايات المتحدة عن مواجهة الصين إذا لزم الأمر، وتذكر بكين نفسها -من ناحية أخرى- بهذه الحقيقة دون إلحاق ضرر جسيم بالهيبة الصينية، لا يترك للقادة الصينيين حلا سوى الحرب الفورية لمنع إعلان تايوان دولة مستقلة ذات سيادة من الناحية الأخرى.
وقد رأينا أن واشنطن حرصت منذ اللحظة الأولى على تأكيد التزامها بكل الاتفاقات السابقة حول مبدأ الصين الواحدة، التي لا تمثلها سوى حكومة بكين. كما تجنبت الرد على المناورات العسكرية الصينية واسعة النطاق حول تايوان بمناورات مماثلة قريبا أو بعيدا في المنطقة، وإذا كنا نفهم ونقدر انضباط رد الفعل الصيني وحصره في نطاق المناورات العسكرية، والبيانات الدبلوماسية الخشنة، والعقوبات الاقتصادية المحدودة على تايوان، مع تجميد الاتصالات مع واشنطن حول بعض القضايا مثل المناخ، فينبغي أن نتفهم ونقدر الانضباط الأمريكي المتمثل في الامتناع عن أية تحركات ذات طبيعة عسكرية في الباسيفيك إبان الأزمة، لكن الأهم من التقدير هو أن هذا الانضباط من الجانبين يوفر لنا الدليل الدامغ والصارم على أنهما حقا لا يسعيان إلى مواجهة مسلحة.
من حقائق أو مبادئ اللعبة الاستراتيجة في واشنطن نحو بكين في العقدين الأخيرين -والتي تغيب أحيانا عن الذاكرة- أن كل إدارة أمريكية تأتي إلى الحكم لابد أن تصنع سابقة حركية أو تترك بصمة تذكر بأهمية (الخطر الصيني)، برغم ذلك الحرص المشترك على تفادي الصراع الساخن، وذلك طبعا بالإضافة إلى الوثيقة الملزمة التي تقدمها كل إدارة إلى الكونجرس حول مذهبها الاستراتيجي لحماية الأمن القومي، وهي الوثائق التي تدرجت من وصف الصين بالخطر الصاعد إلى المنافس الأقوى وأخيرا الخطر الماثل؟ وعلى ما أتذكر فقد بدأ هذا التقليد في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، حين اقتربت المقاتلات الأمريكية عدة مرات من مقاتلات صينية فوق بحر الصين، ثم تلاه باراك أوباما ليبشر بنقل مركز الثقل الاستراتيجي الأمريكي من الخليج إلى بحر الصين، ليجيء دونالد ترامب، فيعلن الحرب التجارية على الصين، ويطور خليفته الرئيس الحالي جو بايدن الصراع إلى تدشين مرحلة الاحتواء بتكوين تكتل أوكوس من الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا لمجابهة الصعود الصيني، وبتأسيس مجموعة الإندو- آسيان الاقتصادية للغرض نفسه، ثم لا يكتفي بذلك بل يعلن في طوكيو عن أن الولايات المتحدة سوف تدافع عن تايوان إذا غزتها الصين، مستهلا السياق الذي جاءت فيه زيارة رئيسة مجلس النواب للجزيرة المتنازع عليها .
في المقابل، فإن من حقائق ومبادئ الاستراتيجية الصينية نحو الولايات المتحدة التعايش مع هذا العداء المحكوم، والرهان على الصعود والصمود طويل النفس للقوة الصينية، والتراجع الأمريكي التدريجي مهما يطل الزمن، علما بأن التصدير إلى السوق الأمريكية بالذات كان هو أهم روافع الصعود الاقتصادي الصيني، ومن ثم، فلا موجب لاستعجال مواجهة عسكرية مادامت واشنطن ملتزمة بسياسة الصين الواحدة، بمعني أنها لا تعترف بتايوان كدولة صينية مستقلة ذات سيادة، ومادام التسليح الأمريكي للتايوانيين لا يصل حد ضمان تفوقها على الصين، (كما هو الالتزام الأمريكي نحو اسرائيل مثلا)، والأهم مادام أن الولايات المتحدة لا تضع صواريخ، ولا رؤؤس نووية على الأراضي التايوانية. إذ أن تلك هي خطوط الصين الحمراء التي لا تهاون فيها، والتي يعني تجاوزها أمريكيا الحرب مهما تكن العواقب .
هذا الصبر الاستراتيجي الصيني -إذا جاز التعبير- ليس جديدا في إدارة بكين لصراعاتها الدولية والإقليمية، ولكن البعض ينسون دروس الماضي البعيد، بل والقريب، فالحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي توقفت عند خط الهدنة الحالي لا لنقص في قدرات أمريكا والصين على الاستمرار، ولكن تراجعا عن حافة الهاوية، ولم يزد رد فعل الصين -وهي بعد في ذروة المد الثوري عام ١٩٥٤- على زيارة الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور لتايوان على بضع طلقات مدفعية على جزيرة تايوانية شبه مهجورة، وهو إجراء وصفه الزعيم السوفيتي آنذاك نيكيتا خروتشوف في رسالة سرية إلى الزعيم الصيني ماو تسي تونج بأنه تهور لا طائل منه ولا داعي له، وكان التحالف الصيني السوفيتي لقيادة الجبهة العالمية الثورية ضد الامبريالية آنذاك في بواكير صباه، الذي لم يدم طويلا .
أكثر من ذلك وأعمق دلالة أن الصين صبرت خمسين سنة كاملة حتى تستعيد مكاو من البرتغاليين عبر ترتيبات تدريجية طويلة الأجل، وحتى تستعيد هونج كونج من الحكم البريطاني بانتهاء عقد تأجير الإقليم لبريطانيا منذ القرن التاسع عشر، وبالتأكيد كان بوسع الصين من الناحية العسكرية البحتة غزو الإقليمين وتحريرهما بالقوة، أو على الأقل غزو مكاو بعد أن انحدرت البرتغال إلى قوة من الدرجة الثالثة أو الرابعة، ومن ثم تطالب بهونج كونج من مركز أقوى، ولكن لا هذا ولا ذاك حدثا، وتسلمت بكين الإقليمين دون رصاصة واحدة، ودون تعطيل ترس واحد في مصانعها التي لا تني عن الإنتاج والنمو .
ثم إن الصين لم تفرغ بعد من هضم هونج كونج المترعة بأسباب الاضطراب، رفضا من شعب الإقليم لتطبيق أساليب الحزب الشيوعي الصيني في الحكم على سكان الإقليم، في انتهاك واضح من جانب بكين لمبدأ دولة واحدة بنظامين، حيث يتمسك مواطنو هونج كونج بالحريات العامة والنظم القانونية الموروثة من الحكم البريطاني، والتي يزدريها قادة الصين، فأي نموذج تقدمه بكين حاليا لشعب تايوان لإقناعه بقبول الوحدة مع الوطن الأم والحالة هذه في هونج كونج؟! ألا ينبهنا هذا إلى حقيقة أن مشكلة الصين في تايوان هي مع الـ23 مليون تايواني قبل أن تكون هذه المشكلة مع الولايات المتحدة الأمريكية؟
على أية حال، لعل من يجعلون كراهيتهم للولايات المتحدة بحق وبغير حق هي منظورهم الوحيد لفهم العلاقات الدولية والصراع على قمة العالم يكونون قد تعلموا الدرس هذه المرة .