يمكن للمرء أن يستحضر روح النضال من أجل التحرر من ظلم الفصل العنصري عندما يقف للحظات في ميدان نوبل الذي يمثل ساحة عامة في حي فيكتوريا والفريد ووترفرنت الراقي في كيب تاون بجنوب إفريقيا. تقف تماثيل الفائزين الأربعة بجائزة نوبل للسلام في جنوب إفريقيا شامخة وكأنها تقول أنا تاج المجد فوق جبين أمة قوس قزح عند ملتقى البحرين الأطلسي والهندي: المناضل نكوسي ألبرت لوتولي ، ورئيس الأساقفة ديزموند توتو ، ورئيس الدولة السابق ف.دبليو دي كليرك والرئيس السابق نيلسون مانديلا. ويلاحظ الزائر إضافة تمثال خامس في نفس الميدان ليجسد قيم السلام والديموقراطية ويشيد بنضال النساء والأطفال في أرض تهاوى البغي فوق ترابها وتحطَّمَت بسواعد أبنائها سلاسل الجبروت والجبارين. عندما زرت المكان أكثر من مرة كنت أقف أمام تمثال القس ديزموند توتو الذي لحق برفاقه الثلاثة إلى عالم الخلود في نهاية عام 2021، وأتأمل مواقف لا تُنسي في مسيرة حياته الزاخرة. ربما نال نلسون مانديلا الحظ الوافر في التكريم والإشادة الدولية، لكن ما قدمه ديزموند توتو في مجال الدفاع عن الحرية والكرامة الإنسانية على إطلاقها يمثل علامة بارزة في تاريخ الفكر السياسي والاجتماعي الأفريقي.
كان توتو أحد أبناء أفريقيا العظام حيث نالت مواقفه الاحترام والتقدير في جميع أنحاء القارة لمعارضته التي لا تلين لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ومساعدته في الانتقال السلمي للبلاد إلى حكم الأغلبية السوداء. وقد واصل توتو التصدي لبعض القضايا الشائكة في أفريقيا بما في ذلك معارضة قادتها المستبدين. لقد انتقد بلا تردد رئيس جنوب أفريقيا ثابو مبيكي لإنكاره فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز ومنعه الحكومة من توزيع العلاج اللازم. كما انتقد الرئيس جاكوب زوما، بسبب مزاعم فساد.
بعد انتهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في أوائل عام 1990، حث توتو المجتمع الدولي على معاقبة والتصدي للمجلس العسكري للديكتاتور النيجيري الراحل ساني أباتشا بعد أن نفذ حكم الإعدام بحق الناشط البيئي والكاتب المسرحي كين سارو ويوا ونشطاء آخرين في عام 1995. ومع تزايد الأدلة على مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص وتشريد الكثيرين في منطقة دارفور بالسودان، انتقد توتو القادة الأفارقة لدعمهم وحمايتهم للرئيس المخلوع عمر البشير من مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بتهمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في دارفور. كما اشتبك توتو مرارًا وتكرارًا مع رئيس زيمبابوي الراحل روبرت موغابي، حيث وصفه بأنه يشبه “صورة كاريكاتورية لديكتاتور أفريقي”.
توتو وعالمية خطاب حقوق الانسان
لقد كان توتو يؤمن بعالمية حقوق الإنسان حيث كانت لديه قناعات عميقة بغض النظر عن مدى خطورة أو عدم شعبية الدفاع عما يؤمن به. ومن ذلك على سبيل المثال في عام 2014 كتب مقالا نشر في صحيفة هآرتس الإسرائيلية دعا فيه إلى مقاطعة دولية لإسرائيل، وأن يعمل كل من الفلسطينيين والإسرائيليين جنبا إلى جنب بعيدا عن قياداتهم من أجل التوصل إلى تسوية سلمية للصراع في الأرض المقدسة. ذكر مقولة مانديلا الشهيرة بأن جنوب أفريقيا لن تتذوق طعم الحرية ما لم تتحرر فلسطين. وفي عام 2017 أرسل رسالة إلى زعيمة ميانمار آنذاك أونغ سان سو كيي قائلا: أكتب إليك اليوم رغم اعتزالي العمل العام وبعد أن بلغت من العمر عتيا ولكنني لن أبقى صامتا على ما أصابني من حزن عميق إزاء محنة الأقلية المسلمة من الروهينجا في بلدكم، نحن على يقين أنكم تعلمون حقيقة اختلاف البشر في الشكل والعقيدة – بعضهم قد يكون أكثر قوة وبسطة من غيرهم – ولكن ليس هناك أسمى ولا أدنى. إذا اشتكى عضو تداعت سائر الأعضاء، فنحن أفراد عائلة واحدة، إنها الأسرة البشرية الواحدة. حقا لا توجد اختلافات طبيعية بيولوجية بين البوذيين والمسلمين؛ وإننا إذا كنا يهودا أو هندوسا أو مسيحيين أو حتى ملحدين، فإننا نولد من أجل الحب دونما تحيز. وقد علمتنا الأيام أن التمييز ليس بالفطرة ولكنه أمر مكتسب”.
تراجع أفريقي
يبدو أن ديزموند توتو الذي يعد أيقونة الحرية في أفريقيا قد غادر عالمنا وهو يتحسر على ما وصلت إليه القارة في عام 2021. الأشياء تتداعى تماما. موجة من عدم الاستقرار تهيم بظلالها السوداء فوق سماوات أفريقيا الصافية. أدت الحرب الأهلية التي دامت عامًا كاملاً إلى جعل إثيوبيا، ثاني أكبر دولة في إفريقيا من حيث عدد السكان، على شفا كارثة. قام آبي أحمد الذي حصل للمفارقة على جائزة نوبل للسلام بالتخطيط مع حليفه أسياس أفورقي ومتطرفي الأمهرة لحرب عبثية في إقليم التيغراي. تم إعلان حالة الطوارئ، وإجبار السكان على تسليح أنفسهم، واعتقال المدنيين من عرقية التيغراي -وهو ما يشكل استمرارًا لاتجاه انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الحكومة الاثيوبية والأطراف الأخرى في الصراع. تتجه إثيوبيا إلى صراع طويل الأمد وربما تفكك الدولة، الأمر الذي سيؤدي إلى أزمة إنسانية هائلة مع إتاحة الفرص للاعبين الخارجيين للتنافس على النفوذ في شرق أفريقيا. كما ستستفيد الجماعات السلفية الجهادية من حالة عدم الاستقرار هذه. ومن شأن انسحاب القوات الإثيوبية من بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (أميصوم) أن يفسح المجال أمام حركة الشباب للتوسع بالقرب من الحدود الإثيوبية. من المرجح أيضًا أن تحاول حركة الشباب استغلال المظالم التي تنشأ في المجتمعات العرقية الصومالية في إثيوبيا لتمديد نفوذها هناك.
وإذا نظر المرء حواليه لوجد أن الأشياء تتداعى بشكل مخيف. أطاح الجيش السوداني بالحكومة المدنية في أواخر أكتوبر 2021، مما أدى إلى عرقلة الانتقال إلى الديمقراطية ودخول البلاد في دوامة عدم الاستقرار السياسي. تواجه العديد من البلدان الأخرى حالة من عدم الاستقرار الداخلي المتفاقم، وتهديدات متزايدة من جهات فاعلة غير حكومية، وتوترات مع جيرانها. لقد شهد كل من السودان والجزائر احتجاجات حاشدة في عام 2019. أدت الانتفاضة الشعبية في السودان إلى الإطاحة بحكم الاخوان المسلمين. كما أدت احتجاجات الجزائر إلى استقالة رئيسها المريض لتشهد بعدها تغييرات سطحية أ قبل أن يستفيد النظام من عمليات الإغلاق بسبب جائحة كورونا للقضاء على حركة الاحتجاج إلى حد كبير. تنضم هذه النكسات إلى التوجه نحو حكم الفرد في تونس التي كانت تمثل حلما فأضحت بفعل ساستها سرابا.
أما في الصومال التي تعاني من هيمنة عقلية الوهن فقد أفسدت أهواء السياسة وتدخلات الخارج المهمة المقدسة وأبعدت قوات الأمن عن القتال ضد حركة الشباب. عندما قرر الرئيس فرماجو ان يتحصن في فيلا صوماليا ويمدد ولايته بشكل شرعي كادت البلاد أن تدخل مرحلة جديدة من الحرب الأهلية. لكن التوترات لا تزال عالية مع دخول البلاد فترة انتخابات مشحونة. من المحتمل أن يكون انسحاب معظم القوات الأمريكية من الصومال قد ساهم في تزايد تورط القوات التي دربتها الولايات المتحدة في المعارك السياسية. في الوقت نفسه ، استفادت حركة الشباب من تراجع جهود مكافحة الإرهاب وتقدمت على عدة جبهات محيطة بمقديشو في عام 2021. وفي أوغندا بدأ فرع من تنظيم الدولة الإسلامية تنفيذ هجمات إرهابية عنيفة في أوغندا. هذه المجموعة، التي يوجد مقرها في جمهورية الكونغو الديمقراطية المجاورة، من المحتمل أن تحاول التحريض على عدم الاستقرار في أوغندا وربما تستدرج القوات الأوغندية إلى معركة مكلفة في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
لم يكن الوضع في غرب أفريقيا بأحسن حالا. تزداد اتجاهات الحوكمة سوءًا في غرب إفريقيا، حيث تهدد الانقلابات العسكرية بعرقلة شراكات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل. كما تواجه نيجيريا تحديات أمنية متزايدة تسهم في تفاقم التمرد السلفي الجهادي الحالي.
وقد تعرضت مالي لانقلابين عسكريين منذ عام 2020. وأدى الانقلاب العسكري الأخير إلى توتر علاقات مالي مع فرنسا، التي تقود مهمة مكافحة الإرهاب في مالي ومنطقة الساحل. ومما يثير حفيظة الغرب أن العسكريين في مالي، الذين يحاولون تمديد الفترة الانتقالية إلى خمس سنوات طوال، سعوا إلى إبرام صفقة مع شركة عسكرية روسية خاصة، مما زاد التوترات مع فرنسا ودول أوروبية أخرى كانت تعهدت بإرسال قوات إلى مالي. كما انتقد القادة العسكريون في مالي المنظمات الإقليمية التي دعت إلى الانتقال إلى الحكم المدني. وتهدد العلاقات الضعيفة بين مالي وجيرانها بتقويض المحاولات الطويلة الأمد لزيادة التنسيق الأمني الإقليمي ضد تنظيمي القاعدة وداعش في منطقة الساحل. لن يكون للانتصارات التكتيكية في مكافحة الإرهاب، مثل قتل القوات الفرنسية لزعيم تنظيم داعش في الساحل مؤخرًا، آثار دائمة، لا سيما إذا تقدمت الجماعات السلفية الجهادية لتملأ الفراغ الذي سوف يخلفه انسحاب القوات الغربية.
الاضطرابات بهذا الحجم لها عواقب عديدة، أولها الآثار على المدنيين الذين يواجهون الأزمات الإنسانية والقمع السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان. وستكون النتيجة الأخرى هي نمو الحركة السلفية الجهادية، التي تستغل البيئات غير الآمنة وظروف الحكم السيئة لترسيخ نفسها بين صفوف السكان المهمشين والأكثر قابلية للاختراق.
تراث توتو ونفاق الحكام الأفارقة
على الرغم من جهود ورؤى القادة العظام أمثال مانديلا وتوتو فإن أفريقيا في حالة تراجع ديموقراطي وأمني. أضحت بلدانها أقل حرية وأسوا أمنا وفقا لمؤشرات 2021. ثمة نفاق وجشع من قبل الجيل الحالي من القادة الأفارقة. بينما ذرفوا دموعهم حزنا على رحيل أيقونة الحرية ديزموند توتو فإنهم ظلوا صامتين بشأن دعم الراحل الحائز على جائزة نوبل للسلام للقضايا التي لا يرتاحون لها ، مثل دعمه المطلق للحقوق الفردية والحريات الديمقراطية والقضايا البيئية. أشادت رئيسة تنزانيا سامية حسن بمناقب توتو ومساهمته في النضال من أجل التحرر وموقفه الثابت من السلام والوحدة والحكم الرشيد وأنه سيظل موضع تقدير إلى الأبد. ومع ذلك تجاهلت موقفه من الحريات الشخصية. كما قام رئيس بوروندي برثائه رغم اتهامه من قبل لجنة تابعة للأمم المتحدة في سبتمبر 2021 بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان. ولعل ما يثير الدهشة والاستغراب في آن واحد هو إشادة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الذي فاز بجائزة نوبل للسلام بزميله ديزموند توتو الحائز على نفس الجائزة قبله بخمسة وعشرين عاما ووصفه بأنه تجسيد للنضال من أجل التحرر، على الرغم من أن مؤسسة توتو حذرت في وقت مبكر من عام 2021 من أن الحرب في منطقة تيغراي الإثيوبية ترقى إلى حد الإبادة الجماعية. وهكذا رحل ديزموند توتو الذي كرس حياته من أجل السلام والدفاع عن الحرية والكرامة الإنسانية وودعنا معه عاما يعد من أسوأ فترات النضال الأفريقي من أجل الحرية وحماية حقوق الإنسان. فليرقد أيقونة الحرية بسلام وليعلم بأن فجر التحرر الأفريقي حتما آت لا ريب فيه.