تابع المجتمع المصري باهتمام شديد الرسائل التي وجهها السيد طارق شوقي وزير التعليم المصري، وهو اهتمام مبرر نظرا لوجود 23 مليون طالبا في مراحل التعليم المختلفة، وما يقارب مليون و200 ألف معلما يمارسون مهنة التعليم في المراحل التعليمية المتنوعة، ومن ثم فاهتمام المجتمع المصري بتصريحات السيد الوزير هو أمر لا يدعو للدهشة، كما أننا أمام تصريحات لحقتها قرارات وتصريحات سابقة لا يمكن تجاهلها، وإجراءات تتخذها وزارة التربية والتعليم بالتعاون مع أجهزة الدولة المختلفة، ومن بينها وزارة الشباب والرياضة وجهاز الرياضة العسكري وزارة الداخلية بغرض الوصول إلى ما حدده السيد الوزير بوضوح: ” كيف نوزع 23 مليون طالب، ومليون و200 ألف معلم، احنا هانحط ضوابط لمديري المدارس لتوزيع الولاد واستخدام الفراغات وعلى الأيام والأزمنة والهدف بتاعنا -هذه المشكلة الهندسية- ازاي نكمل المحتوى الدراسي”.
عرض السيد الوزير مجموعة من الإجراءات التنظيمية التي تراعي التنظيم اليومي لسريان العملية التعليمية من الناحية الشكلية، تنظيم حضور الطلاب في كل مرحلة من المراحل، والضوابط التي تحكم العملية الإدارية وضوابط جداول حضور وأوقات تواجد الطلاب لمراعاة الإجراءات الاحترازية وقواعد التباعد الاجتماعي كما أكد الوزير.
ولكن ما يبدو من حديث السيد الوزير يؤكد على أن جائحة كورونا لم تكن الدافع الوحيد وراء (إعادة الهندسة) للعملية الإجرائية/الإدارية التي يقوم بها _على حد قوله_ ولكن أزعم أن الرغبة الملحة للسيد الوزير في الإسراع في عملية (أتمتة) أو (رقمنة) العملية التعليمية في مصر، وعلى خطى الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، والتي يقتدي_ ببعض عناصرها_ نظام التعليم المصري الراهن، وهو ما يعني بوضوح أن هذه العملية الإجرائية الخاصة بتنظيم المدرسة وتواجد الطلاب بها ليست مسألة استثنائية أو وضع طارئ، بل هو بالأحرى الوضع الجديد وفقا لما يطلق عليه منظروا النظام التعليمي الجديد 0.2 .
إذن نحن أمام رؤية محددة أحادية النظرة للتعليم بوصفه (معلومات ومعارف) يجب أن يحصل عليها الطالب، وربطها بنظام قوي للتقويم/الاختبارات أو ما يطلق عليه السيد الوزير (نتائج التعلم)، وهو يصل لأبعد من ذلك في توضيح فكرته الرئيسية عندما يتحدث عرضا وقصدا عن مسألة التقويم وتسريب الامتحانات وحول مسألة الدروس الخصوصية وتجريمها وصولا إلى عرض مزايا (مجموعات التقوية)، وهي البديل التنافسي (الرسمي/الشرعي) الذي توفره الوزارة (إذا كنتوا عايزين تجيبوا نمر في الامتحان تعالوا هنا وبقصد مجموعات التقوية)، كما يؤكد: امتحانات الثانوية العامة لن تشهد تصوير الأسئلة أو غش أو تسريب، ولن يكون هناك تظلمات لعدم وجود كنترولات بسبب التصحيح الإلكتروني.
تغيير القرار الوزاري الخاص بمجموعات التقوية لضبط جودتها لطلاب المرحلة الابتدائية وكذلك المرحلة الإعدادية والثانوية بقاعات مكيفة، وبشكل تنافسي، مع منح الطالب حرية الحضور للمدرس الذي يريده، وليس مدرس الفصل. فالوزارة بوضوح تتنافس مع مراكز الدروس الخصوصية ولا تعالج المشكلة من جذورها.
لنعد بتؤدة إلى ما يحدد طبيعة التعليم في المجتمع المصري والهدف منه وفقا للنصوص الحاكمة بين الجميع، وهو الدستور المصري الذي يحدد هذه المسألة بوضوح من خلال المادة (19): التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز، وتلتزم الدولة بمراعاة أهدافه في مناهج التعليم ووسائله، وتوفيره وفقاً لمعايير الجودة العالمية.
وهو ما يطرح على القائمين على العملية التعليمية في مصر أسئلة محددة، فلا يجيب النظام التعليمي الراهن عن كيفية التعامل مع هذه القضايا الشائكة حول الحفاظ على الهوية الوطنية، وترسيخ القيم الحضارية، وحتى عندما يشير إليها فإنه يتحدث أيضا عن (مادة معرفية) من خلال كتاب جديد سيتم إقراره على الصف الثالث الابتدائي وهو كتاب (القيم واحترام الآخر.. معا نبني مصر).
وهو ما يعني أننا أمام رؤية تعتقد بوضوح في أن المعارف وحدها قادرة على تغيير سلوك الطلاب، وأن المادة المعرفية وحدها يمكنها أن تغرس القيم والأخلاق في عقل ووجدان الطالب وهو أمر أظنه محل جدل كبير وموضع شكوك من قبل خبراء التعليم والتربية على وجه العموم.
فالمناهج الدراسية التي ينبغي إعادة النظر في محتوياتها، من ناحية والطريقة المناسبة لتدريسها من ناحية أخرى، وهو ما يحتاج إلى تغييرات جذرية في طبيعة الثقافة المؤسسية للتعليم، وكما تعلمون فإن التغييرات الثقافية تستلزم وقتا وجهدا ضروريين، وطويلي المدى، ولا يمكن الاعتماد على الجانب المعرفي وحده لإحداث تغييرات في طبيعة الشخصية وثقافتها، بل تستلزم المسألة جهودا تطبيقية/عملية من خلال أنشطة متنوعة، وهو ما لم يتضح خلال خطة الوزارة للتعامل مع العام الدراسي القادم، فالتحديات السابقة التي كانت تواجه تعامل المدرسة مع الأنشطة الموازية قد تزايدت نتيجة تقليص الوقت إلى الثلث تقريبا، وهو ما يعني استمرار تجاهلها، والمعلمون مازالوا هم نفس المعلمين الذين يفضلون التعامل مع الذاكرة في سياق يؤكد على مركزية (التقويم) من ناحية، والارتكان إلى التلقين كوسيلة تعليمية ناجحة من ناحية أخرى.
إذن، مازال التحصيل النظري أهم من الممارسة العملية، حيث يوجه القائمون على العملية التعليمية جل اهتمامهم للمادة الدراسية على نحو يجعلهم يهملون ميول الأطفال وقدراتهم والفروق الفردية فيما بينهم، فأصبح اتقان المادة الدراسية غاية في ذاته دون اهتمام بحجم استفادة الأطفال. ومازال استعراض المعلومات في التقويم النهائي، أهم من أسلوب التفكير، وغدت وظيفة المقررات الدراسية من وجهة نظر المدرس والتلميذ هي النجاح في الامتحان والانتقال إلى المستوى الدراسي الأعلى.
وهكذا تتحدد قيمة التلميذ وفقا لحجم المعلومات التي يحفظها ويتمكن من (استرجاعها) عند الامتحان، والنتيجة النهائية لعمليات التطوير المستمرة هي مزيد من التعقيدات؛ ومزيد من الأحمال الثقيلة تلقى على عاتق الأطفال دون معرفة منهم لأسبابها.
والمحصلة النهائية لكل ما سبق هو التكريس لمفاهيم سلبية حول دور التعليم أهمها أن يصبح إتقان المقرر الدراسي، ومن ثم النجاح في (الامتحان) هو الهدف الأسمى لدى التلميذ والمدرس والأسرة، فانتشرت الدروس الخصوصية، وتهاوت قيمة التعليم، وضعف العائد النهائي منه. وما التطوير الحادث بالفعل إلا في استخدام الطالب للتكنولوجيا بديلا عن الكتاب الورقي، والمنصات الالكترونية بديلا عن المقررات الدراسية وهو ما يتجلى بوضوح في الإنجازات التي استعرضها السيد وزير التعليم والتي تتمحور جميعها حول إنتاج المنصات الالكترونية ومصادر التعليم عن بعد والتي لا يمكنها وحدها أن تحقق أهداف التعليم.
لو كان الأمر كذلك فلصالح من إنتاج مثل هذه الآلات البشرية؟ ! فمهمة التعليم يجب أن تهدف في المقام الأول إلى تنشئة مواطن قادر على المساهمة الفعالة في تطوير وتقدم مجتمعة، تنشئة إنسان قادر على أن يمارس إنسانيته بكافة أبعادها، وأن يتواصل مع الآخر، قادر على أن ينتج أسباب رفاهيته؛ من خلال وعيه بذاته بوصفه عضواً في مجتمع تتسع دوائره في النهاية لتشمل الانسانية كافة، وهو ما يؤكد عليه نصا قانون التعليم المصري في مادته الأولى: يهدف التعليم قبل الجامعي إلى تكوين الدارس تكوينا ثقافيا وعلميا وقوميا على مستويات متتالية، من النواحي الوجدانية والقومية والعقلية والاجتماعية والصحية والسلوكية والرياضية، بقصد إعداد الإنسان المصري المؤمن بربه ووطنه وبقيم الخير والحق والإنسانية وتزويده بالقدر المناسب من القيم والدراسات النظرية والتطبيقية والمقومات التي تحقق إنسانيته وكرامته وقدرته على تحقيق ذاته والإسهام بكفاءة في عمليات وأنشطة الإنتاج والخدمات، أو لمواصلة التعليم العالي والجامعي، من أجل تنمية المجتمع وتحقيق رخائه وتقدمه.
تخلو الخطة الجديدة إذن من تقرير طبيعة الأنشطة ودورها في تحقيق الغرض من التعليم، والذي يتجلى بوضوح خلال المادة (17) التي تنص على تنظيم الدراسة في مرحلة التعليم الأساسي لتحقيق الأغراض الآتية:
• التأكيد على التربية الدينية والوطنية والسلوكية والرياضية خلال مختلف سنوات الدراسة.
• تأكيد العلاقة بين التعليم والعمل المنتج.
• توثيق الارتباط بالبيئة على أساس تنويع المجالات العملية والمهنية بما يتفق وظروف البيئات المحلية ومقتضيات تنمية هذه البيئات.
• تحقيق التكامل بين النواحي النظرية والعملية في مقررات الدراسة وخططها ومناهجها.
• ربط التعليم بحياة الناشئين وواقع البيئة التي يعيشون فيها، بشكل يؤكد العلاقة بين الدراسة والنواحي التطبيقية، على أن تكون البيئة وأنماط النشاط الاجتماعي والاقتصادي بها من المصادر الرئيسية للمعرفة والبحث والنشاط في مختلف موضوعات الدراسة.
وتأتي النقطة الأخيرة والمتعلقة بدعم المدرسة بوصفها الوحدة الأولى والأولية في العملية التعليمية ومنح المسئولين عنها الصلاحيات الكافية لتطويرها، وهو أمر يبدو في ظاهره محمودا، ينادي به خبراء التعليم منذ فترة ليست بالقصيرة، ويدعم هذا التوجه المحمود التحول إلى اللامركزية التي تمنح المدرسة المرونة في التعامل مع بيئتها المحلية وهو توجه قد يغير في طبيعة العملية التعليمية في مجملها إذا ما تم التعامل معه على محمل الجد، وشريطة أن تكون اللامركزية توجه وفلسفة إدارة، يشمل كافة الوحدات الرسمية، وليس التعليم فحسب في إطار عام وشامل يتضمن وحدة الرؤية وتنوع الأهداف.
ومن ثم ينبغي أن تشتمل هذه الفلسفة على ضرورة الدفع نحو تبني اللامركزية (اللامركزية ليست نصا قانونيا فحسب بل هي ممارسة واقتناع من جميع الأطراف بجدوى الحكم المحلي) في المؤسسات المعنية بتنشئة الطفل وحمايته (المدارس – المراكز الثقافية – المراكز الرياضية – دور الرعاية …الخ) والعمل على ضمان توفير فرص متكافئة لكل الأطفال للحصول على التعليم والثقافة والصحة والحماية الاجتماعية …الخ، في ضوء الاعتبارات الآتية:
– التنسيق بين المؤسسات المعنية بتنشئة وحماية الطفل.
– تعزيز نظم المعلومات لتوفير بيانات دقيقة تنير القرار في مجالات تنشئة وحماية الطفل.
– الاستفادة المثلى من الموارد.
وفي إطار ابتكار آلية محلية، من خلال إنشاء لجنة محلية مشتركة تمثل القطاع التربوي والصحي والثقافي والرياضي والاجتماعي والإعلامي (اللجنة التنسيقية لتنشئة الطفل)، للتنسيق بين القطاعات المتنوعة المعنية بالطفل وتهدف إلى رسم السياسة العامة للطفولة في المجتمع المحلي، وتوفير الإطار الوقائي والعلاجي لدعم ومساعدة الأطفال، وتكون مسئولة عن سلامة الأطفال من الناحية البدنية والعقلية والاجتماعية …الخ، وتقدم الدعم الخاص للأطفال الذين يعانون من الظروف الصعبة، وصعوبات في التعلم، وإتاحة الفرص للحصول على المساعدة عندما يحتاجونها. على أن تمنح مؤسسات الطفولة المحلية حرية اتخاذ القرار بالمشاركة مع قيادات ومؤسسات المجتمع المحلي لدعم تنفيذ أهدافها.