ما ورثناه من أفكار من جان-جاك روسو هو بالتأكيد أكثر كثيرا مما ورثناه من أي فيلسوف سياسي سبقه أو عاصره؛ فقبل أي شيء كان روسو هو أول المبشرين بالديموقراطية على النمط الحديث الذي نعرفه اليوم، نظريا على الأقل. وهو قد سبق عصره بأن وضع شروطا للشرعية السياسية تبتعد تماما عن أي نظام حكم كان قائما في عصره، بل في الواقع لم ولا يحقق أي نظام سياسي نعرفه اليوم شروط روسو بالكامل. وليس ذلك لأن شروط روسو مستحيلة التحقق، فعلى العكس، يمكننا القول بأنه قد أثبت أن هذه الشروط قابلة للتحقق، ولكن لأن المقومات الضرورية لتحقيق هذه الشروط، والتي أوضحها روسو أيضا، لم تتوافر حتى يومنا هذا. قدم روسو أهم أفكاره السياسية من خلال كتابه “عن العقد الاجتماعي”، وهو ليس أهم كتبه فحسب، ولكنه أحد أهم نصوص الفلسفة السياسية في التاريخ ومن أبعدها أثرا. وبالرغم من أن “خطاب عن اللا مساواة” يقدم تمهيدا ضروريا للعقد الاجتماعي، بينما يدعم “إميل أو عن التربية” الأفكار الأساسية له، إلا أن “العقد الاجتماعي” يظل كعمل متكامل قائم بذاته ويقدم أهم الأفكار السياسية لروسو.
اقرأ أيضًا.. تجديد الفكر السياسي| روسو: يولد البشر أحرارًا (5)
من المستحيل عمليا أن أقدم في السطور التالية عرضا كاملا لكتاب “العقد الاجتماعي”، ولكنني في الحقيقة لست في حاجة إلى ذلك في حدود أغراض تقديمي له. ما أنوي تقديمه فيما يلي هو عرض للنقاط الأساسية التي أعتقد أنها ضرورية لالتقاط مجموعة المفاهيم التي قدمها روسو في كتابه وظلت حية في الفكر السياسي بعده وحتى يومنا هذا. بعبارة أخرى أرغب في عرض الأفكار التي قدمها روسو ثم أصبحت بديهية في أفكارنا السياسية السائدة حاليا، ولكنني أنوي تقديمها في سياقها الأصلي، أي في إطار فهم روسو لها.
البشر كما هم، والقوانين كما يمكن أن تكون
يفتتح روسو مقدمة الباب الأول من “العقد الاجتماعي” قائلًا: “إنني أنوي أن أفحص ما إذا كان، في تنظيم المجتمع، يمكن أن تكون ثمة أي قاعدة مشروعة وموثوقة للإدارة، مع أخذ البشر كما هم، والقوانين كما يمكن أن تكون. وسأحاول، خلال بحثي، أن أجمع ما يسمح به الحق/القانون مع ما تمليه المصلحة-الشخصية، حتى لا تنفصل العدالة عن المنفعة”.(Rousseau 1999)
الملاحظة المفتاحية في هذه العبارة هي أولوية الطبيعة البشرية، التي ينبغى أن تؤخذ كما هي، في حين يجب أن تلائمها القوانين. يحاول روسو هنا أن يبرز اختلاف مقاربته عن كثير ممن تناولوا النظرية السياسية قبله، والذين وصف سبينوزا ما يكتبونه بأنه ملهاة أو خيال أقرب لليوتوبيا، لأنهم “لا يفهمون الناس كما هم، بل كما يريدونهم أن يكونوا.” (Bertram 2004) ولكن روسو، عندما يشير إلى الناس كما هم، لا يعني بذلك كما نلتقيهم في الحياة اليومية، أو كما تحدث عنهم في “خطاب عن اللا مساواة”، في تلك الحال التي أفسدتهم فيها المؤسسات والظروف الاجتماعية، وإنما يعني “كما هم” في حالتهم الطبيعية، والتي فيها تكون لديهم ميول نحو ما هو صائب وصالح وأخرى نحو ما هو خاطئ وفاسد، فالظروف والمؤسسات الاجتماعية القائمة، في عصر روسو على الأقل، تشجع تنمية الناس لميولهم نحو الخاطئ والفاسد، وتحكم عليهم بذلك بالبؤس والتعاسة.
ومن ثم علينا أن نغهم ما يرغب روسو في تحقيقه على أنه التوصل إلى تلك القواعد التي يمكن بها بناء مؤسسات اجتماعية تسمح للناس بتنمية ميولهم نحو ما هو صائب وصالح وما يتيح لهم فرص الحياة السعيدة. عندما يقول روسو في بداية كتابه “ولد الإنسان حرا، وهو أسير الأغلال في كل مكان.” فتلك العبارة تمثل الجسر بين الخطاب عن اللا مساواة، وبين عمله الحالي، “فإذا كان قد كشف أسس المجتمع وأغلالنا في خطاب عن اللا مساواة، فالمهمة التي وضعها لنفسه في العقد الاجتماعي هي شرعنة ‘الأغلال’ التي تربطنا ببعضنا البعض وأن يحقق نوعا جديدا من الحرية السياسية والأخلاقية من خلال التشريع الذاتي الديموقراطي.” (Rousseau 2012) تبدو رغبة روسو في “شرعنة الأغلال” متناقضة مع إيمانه بحق الإنسان في الحرية، ولكن لنفهم ما يعنيه بهذه العبارة علينا أن نلاحظ أن روسو يرى أن ثمة نوعان من الاعتمادية، النوع الأول هو اعتماد الإنسان على الأشياء، مثل اعتماده على الطبيعة كمصدر لغذائه وعلى أدواته التي يستخدمها للقيام بأي عمل يحتاج إلى إنجازه، وهذا النوع من الاعتمادية لا ينتقص من حرية الإنسان، ولا تتولد عنه أي شرور في نفسه؛ أما النوع الثاني من الاعتمادية فهو اعتماد الإنسان على غيره من البشر، وهو النوع الذي يفرضه عليه عيشه في المجتمع. الاعتماد المباشر على الآخرين هو ما يسمح بسيادة بعضهم على بعض، وتتولد عنه شرور المجتمع المختلفة. وما يريده روسو هو تحويل الأغلال من كونها علاقات اجتماعية مباشرة إلى أن تكون قوانين تحكم علاقات البشر ببعضهم. شرعنة الأغلال هنا تعني تحويلها إلى تشريعات مستقلة عن البشر، ومن ثم بدلا من أن يعتمد كل منا على الآخرين مباشرة، يصبح معتمدا على القوانين، فيكون بذلك معتمدا مرة أخرى على الأشياء وليس على البشر.
نظريات الاستعباد
يستعرض روسو في الفصول من الثاني إلى الخامس صورا من الأسس التي انبنت عليها السلطة السياسية عمليا، وقدم منظرون سياسيون تبريرات لشرعيتها. هذه الأسس تتمثل في السلطة الأبوية، أي السلطة السياسية كامتداد لسلطة الأب أو كبير العائلة أو العشيرة؛ وفي شرعية حق الأقوى في السلطة؛ وفي شرعية حق المنتصر في الحرب في السلطة. في نقده لهذه الصور يطرح روسو ضمنيا تصوره وهو أنه لتكون أي سلطة شرعية فينبغى أن تنبني عن تعاقد أناس أحرار متساوون، يتمتعون بالمعقولية والعقلانية، وحتى يتحقق ذلك التراضي الملزم لابد من توافر ثلاثة شروط هي: القدرة، والفرصة، والإرادة. وتعني القدرة أن يكون كل شخص قادرا على عدم الدخول في هذا التعاقد، فغياب هذه القدرة يعني أنه مرغم رغم أنفه على الدخول فيه، وتلك إحدى صور الاستعباد. وثانيا ينبغي أن تتاح فرصة حقيقية للشخص حتى يدخل أو لا يدخل في التعاقد، وهذا يعني بصفة خاصة أن مثل هذا التعاقد لا يمكن توارثه عبر الأجيال. وهذه تحديدا نقطة تعارض العقد الاجتماعي عند توماس هوبز. وأخيرا ينبغى أن تتوافر للشخص الإرادة (الصحيحة) للدخول في التعاقد، والمقصود بالصحيحة أنها قائمة على المعرفة بما يترتب له من حقوق وعليه من واجبات نتيجة هذا التعاقد. (Rawls 2007)
يرفض روسو الصور المختلفة للسلطة التي يفتقر كل منها إلى واحد أو أكثر من هذه الشروط التي لا يتحقق الرضا الملزم إلا بها. فالسلطة الأبوية لا يتوافر للشخص القدرة أو الفرصة لرفضها، وكذلك سلطة الأقوى، أو المنتصر لا يتوافر لمن يقبلها القدرة على الرفض، أو فرصته، إذ تتلخص في تخييره بين قبولها أو التعرض للموت. إضافة إلى هذه الصور يرفض روسو نظريتي العقد الاجتماعي لكل من هوبز ولوك، لأنهما في النهاية ينظران لسلطة مطلقة بشكل أو بآخر، ويختلف لوك فقط في اعترافه بحق المحكومين بالثورة على الحاكم المطلق إن أساء استخدام سلطاته، والضمانة الوحيدة التي يقدمها لوك هي تقاسم السلطة بين ملك وبرلمان لهما معا سلطة مطلقة. في المقابل تصور روسو للديموقراطية هو أقرب لما نسميه بالديموقراطية التشاركية، منه إلى الديموقراطية التمثيلية؛ أي أن عند روسو لا يتنازل الناس في أي وقت عن حقهم في حكم أنفسهم لأي فرد أو جماعة تمثلهم وتمارس هذا الحق نيابة عنهم.
العقد الاجتماعي
يقول جون رولز أن تصور روسو للعقد الاجتماعي يقوم على أربعة افتراضات؛ الأول، أن من يتعاونون في إنشاء هذا العقد يبتغون مصالحهم الأساسية، أي الصالح المعقول والعقلاني لهم، وكما يرونه هم أنفسهم؛ الثاني، أن عليهم تحقيق مصالحهم هذه في ظل شروط الاعتماد المتبادل على بعضهم البعض. ويوضح رولز أن الاعتماد المقصود هنا ليس على أفراد بعينهم بل على مجموع الكيان الذي يتألف من هؤلاء الأفراد عندما ينشؤون سويا الجسد/الكيان/الجماعة السياسية بموجب عقدهم الاجتماعي. الافتراض الثالث هو أن كل الأشخاص لديهم القابلية لأن يكونوا أحرارًا كما أن لهم مصلحة في أن يكونوا كذلك، وهذا يعني أن الجميع قابلون لأن تكون لهم إرادة حرة للتصرف حسب ما يعتبرونه يحقق مصالحهم. وأخيرا الافتراض الرابع هو أن جميع الأشخاص لديهم قابلية متساوية للحس السياسي بالعدالة ومصلحة في التصرف حسب هذا الحس. هذا الحس كما يراه روسو يعني قابلية الناس لكل من فهم وتطبيق والتصرف حسب مبادئ العقد الاجتماعي. وهو يبني ذلك على تصوره أن البشر في انتقالهم من الحالة البدائية التي تتحكم فيهم فيها غرائزهم، إلى العيش في مجتمع، يستبدلون هذه الغرائز بالعدالة مما يعطي سلوكهم جانبه الأخلاقي الذي لم يكن له وجود في السابق.
في ضوء هذه الافتراضات يضع روسو السؤال الأساسي الذي يرغب في الوصول إلى إجابة له وهو: ما هو شكل الرابطة التي يمكن للأفراد إنشائها فيما بينهم والتي تدافع عن كل فرد وتحمي ممتلكاته الشخصية، مستخدمة كامل القوة المشتركة للجميع، وفي نفس الوقت لا يضطر أي فرد إلى إطاعة شخص آخر غير نفسه، ومن ثم يظل حرا تماما كما كان قبل أن يدخل في هذه الرابطة. الإجابة لهذا السؤال كما يرى روسو هو العقد الاجتماعي، الذي يموجبه يتخلى كل فرد عن كامل الحقوق التي كانت له في السابق ويسلمها إلى ذلك الكيان الذي ينشئه العقد الاجتماعي والمتألف من جميع الأشخاص المتعاقدين فيما بينهم. يبدو ذلك متناقضا، فكيف نظل أحرارًا إذا ما تخلينا عن حقوقنا للجسد السياسي الذي ينشئه العقد الاجتماعي؟ هنا علينا أن نتذكر أولا أن شرط نشأة هذا الجسد السياسي، هو المساواة التامة بين الأفراد المكونين له، بهذا المعنى فهذا الجسد بمثل كل جزء منه (أي كل فرد مشارك فيه) بنفس القدر، وبمعنى آخر إن كنت جزءا من هذا الجسد السياسي فهو يمثلك أنت نفسك، وبالتالي أنت تتخلى عن حقوقك لتستردها مرة أخرى في اللحظة نفسها، ولكنها ستمارس من خلال الجسد السياسي ككل. ولكن كيف تتحققك حريتك من خلال هذه الرابطة التي تذوب من خلالها في الجسد السياسي للمجتمع؟
يرى روسو أن ثمة ثلاث صور للحرية هي على الترتيب: طبيعية، مدنية، ومعنوية/أخلاقية. الحرية الطبيعية هي تلك التي نمتلكها قبل الدخول في عقد اجتماعي، وهي تعني الحق في كل ما نريد ونستطيع الحصول عليه في حدود قوتنا الفردية، وهي تنتهي بدخولنا في عقد اجتماعي. في مقابل تخلينا عن هذه الحرية نحصل أولا على الحرية المدنية والتي بها نحصل على حق ملكيتنا لكل ما هو في حيازتنا. بمعنى أنه لا يعود علينا أن نحمي ما لنا بداية بحياتنا وسلامتنا وصولا إلى الأشياء التي في حيازتنا في مواجهة الآخرين، فكل ذلك يصبح أولا حقًا معترفا به لنا، وثانيا تحميه القوة المجمعة للجسد السياسي كله، بواسطة قوانينه. وفي المقابل أيضا نحصل على الحرية المعنوية/الأخلاقية، أي التحرر من عبوديتنا لشهواتنا التي كانت هي وحدها ما يحركنا في حال الحرية الطبيعية، فنصبح أسياد أنفسنا، بإطاعة القوانين التي نضعها بنفسنا لنفسنا.
الإرادة العامة
عندما يعرف روسو العقد الاجتماعي يقول أن كل منا يضع بموجب هذا العقد نفسه وقوته بشكل مشترك مع الآخرين تحت إمرة “الإرادة العامة”. الإرادة العامة هي مفهوم مركزي في أفكار روسو، وحتى نفهم علاقتها ببقية ما يطرحه من مفاهيم علينا أن نلاحظ بعض المصطلحات التي يستخدمها والتي تنشأ في ظل العقد الاجتماعي. مع العقد الاجتماعي تنشأ “شخصية عامة”، تلك الشخصية هي ما سمي في العصور الكلاسيكية بالمدينة الدولة polis، وتسمى لاحقا بالجمهورية أو الجسد السياسي. هذا الجسد صناعي وجماعي به عدد من الأعضاء مساو للناخبين في جمعية عمومية تضم كل الشعب أو كل المواطنين. (وينبغي الإشارة إلى أنه عند روسو لا يشمل المواطنون النساء، فهن لسن مواطنات ناشطات ومكانهن في اعتقاده هو المنزل فقط). في دوره النشط يدعى الجسد الاجتماعي بالسيادة، وفي دوره غير النشط يسمى الدولة، وعندما نتحدث عنه في مقابل كيانات مشابهة، يسمى “قوة”، كما هو في قولنا “القوى العالمية، أو قوى الغرب” مثلا. وكذلك يسمى الأفراد الذين يشكلون هذا الجسد في مجموعهم بالشعب، ويسمون بالمواطنين عندما ننظر إليهم كمتشاركين بشكل متساو في سلطة السيادة، ونسميهم رعايا من حيث كونهم يضعون أنفسهم تحت سلطة قوانين الدولة.
يظهر مصطلح الإرادة العامة مع اشتقاقاته المختلفة حوالي سبعين مرة في كتاب “العقد الاجتماعي”. وتكمن مركزيته في أفكار روسو في أنه مصدر شرعية المنظومة السياسية التي يجاول تقديمها من خلال كتابه. والإرادة العامة عند روسو هي تلك التي تعبر عن نفسها من خلال تصويت المواطنين في الجمعية العامة. الإرادة العامة هي إرادة جميع المواطنين كأعضاء في المجتمع السياسي الذي أنشأه العقد الاجتماعي، وهي تختلف عن الإرادة الخاصة الفردية لكل عضو في هذا المجتمع. ما تتجه إليه الإرادة العامة هو المصلحة المشتركة للمجتمع أو الصالح العام، وروسو يعتقد أن كل شخص قادر على التفكير بمعقولية وعقلانية يكفيان لأن يتوصل مع الآخرين إلى إدراك الصالح العام في كل أمر من الأمور. لا يعني ذلك أن الصالح العام لا يمكن أن يتعارض مع المصالح الخاصة للأفراد، ولكن روسو يعتقد أن بإمكان أي شخص التمييز بين الأمرين. في نفس الوقت لا يعتقد روسو أن الصالح العام كما يحدده تصويت المواطنين من خلال الجمعية العمومية هو مطلق أو حتى صائب بالضرورة. يمكن لمجموع أفراد الجسد السياسي أن يتوصاوا إلى قرارات خاطئة وأن يضعوا قوانين مجحفة، ولكن هذه القرارات تظل صحيحة وعادلة، من حيث أنها ستنطبق على الجميع بالتساوي، ومن ثم فلا أحد بعينه يفرض على غيره أوضاعا مجحفة، وإنما كل شخص يفرض على نفسه هذه الأوضاع بمشاركته في تحديد الصالح العام، وفي الإرادة العامة لتحقيقه. ويمكننا أن نلاحظ هنا اختلاف مفهوم الصالح العام عند روسو عن مفهوم المصلحة أو المنفعة العامة عند هيوم، فالأخير يعني مصلحة عامة مطلقة، يمليها العقل المجرد بواسطة المنهج العقلاني العلمي والتجريبي، وهي بذلك لا تخضع في تحديدها لإرادة الناس، ولا تعتمد على ما يتوافقون عليه بأي شكل، وفي نفس الوقت لا تقبل الخطأ.
يمكننا بالتأكيد أن نرى التناقضات الداخلية لمفاهيم الإرادة العامة والصالح العام عند روسو، هذه التناقضات مصدرها هو الافتراضات الأساسية حول الطبيعة البشرية التي يضعها روسو كأساس لأفكاره. في نهاية المطاف روسو هو أحد رواد حركة التنوير، وإن كان قد اختلف مع مبدأ التقدم الحتمي الذي يؤمن به أكثر روادها الآخرين، فهو يشترك معهم في تصورهم للإنسان ككائن عقلاني بالضرورة. يعترف روسو بأن الإنسان تشجع ظروف المجتمع، الذي ينشأ فيه، بعض ميوله دون الأخرى، ولذلك يعتقد في أن ثمة وصفة ما يمكن من خلالها إنشاء مجتمع يشجع تنمية الميول الخيرة الموجودة في طبيعة الإنسان كما يراها. خارج سياق هذه التصورات لا زالت مفاهيم الإرادة العامة والصالح العام ذات مكان محوري في فكرنا السياسي حتى اليوم، ولا زال مفهوم الصالح العام يتراوح بين نظرة هيوم منتجا الميل المتزايد نحو ما نسميه بحكم الخبراء أو التكنوقراطية، وبين نظرة روسو منتجا ما يمكن تسميته بديكتاتورية الأغلبية، والشعبوية. مع روسو قدمت مدرسة العقد الاجتماعي الكلاسيكية ذروة اسهامها الفكري وأكثره تأثيرا حتى اليوم، ومعه أيضا انتهى دورها على مسرح الفلسفة السياسية لفترة طويلة قبل أي يعيد جون رولز إحيائها بصورة جديدة. ولكن إلى أي حد تمكن رولز من الإفلات من التناقضات في الافتراضات الضرورية لأي نظرية سياسية تقوم على فكرة العقد الاجتماعي؟ سيكون ذلك موضوع حديثنا في وقت قريب.
مصادر
Bertram, Christopher. 2004. Routledge Philosophy Guidebook to Rousseau and the Social Contract. London New York: Routledge.
Rawls, John. 2007. Lectures on the History of Political Philosophy. Cambridge, Mass: Belknap Press of Harvard University Press.
Rousseau, Jean-Jacques. 1999. Discourse on Political Economy ; and, the Social Contract. Oxford New York: Oxford University Press.
———. 2012. The Major Political Writings of Jean-Jacques Rousseau : The Two Discourses and the Social Contract. Chicago London: The University of Chicago Press.