عندما أنهى والي الكوفة خالد بن عبد الله القسري مراسم خطبة وصلاة عيد الأضحى في المسجد، قال للناس: “انصرفوا لأضحياتكم وضحّوا تقبّل الله أضحياتكم. أما أنا فإني مُضَح بالجعد بن درهم، لأنه أنكر أن يكون الله قد كلم موسى تكليمًا”. ثم نزل عن المنبر درجة درجة، وتوجه نحو الجعد بن درهم الذي كان مكبلاً تحت أصل المنبر، وذبح قربانه البشري من الوريد إلى الوريد.
كان المشهد رهيبًا بقدر ما كان محفوفًا بأجواء القداسة. لكنه لم يكن مستهجنًا في زمن احتكرت فيه الدولة سلطة الموت باسم “الحق الإلهي”، ومن ثم تفويضها رمزيًا للآباء الذين يحق لهم نحر أضحياتهم -على مرأى الأبناء في الغالب- كنوع من التثبيت الأبوي لسلطة “الموت المقدس”. ولو بنحو رمزي.
لأجل ذلك، حرص خالد بن عبد الله القسري على التمييز بين القربان الحيواني الذي سينصرف المصلون إلى ذبحه، والقربان البشري الذي يبقى وظيفة الدولة حصرًا. وكما يذبح الآباء أضحياتهم أمام الأبناء. كذلك تفعل الدولة حين يتحلّق الناس حول مشهد القربان البشري، طالما يتعلق الأمر بنوع من التثبيت السياسي لسلطة “الموت المقدس”.
عمومًا، يحاول مشهد ذبح الجعد بن درهم أن يبث ثلاث رسائل:
أولاً، لقد جعلت الدولة من العقيدة الجبرية إيديولوجية شمولية. وباسمها تشن حرب إبادة على أنصار حرية الإنسان. بدءًا من الجهمية والقدرية، ووصولاً إلى المعتزلة.
ثانيًا، وحدها الدولة من يحتكر العنف المقدس: الحدود، الفتوحات، الغزوات، السبي، الفيء، الجزية. فضلاً عن حد الردة الذي أمسى سلاحًا فتاكًا في يد “الاستبداد باسم الدين”. فهو لا يكلف عناء “المحاكمة العادلة” طالما أنه مجرد “توقيع باسم رب العالمين”، بلغة البعض.
ثالثًا، يبقى أسلوب الذبح أقرب ما يكون إلى الطقس الديني لا سيما حين يكون مصحوبًا بالبسملة والتكبير. غير أن منابعه لا تقف عند حدود الوعي الإسلامي. بل تضرب بجذورها في أعماق اللاوعي الديني البدائي.
لم تكن غاية العنف في مشهد ذبح الجعد بن درهم مجرد إلقاء الرعب في القلوب وحسب. بل ترويض القلوب على تقبل ذلك النوع من الرعب. مثلما يتعلم الصغار تقبّل رعب ذبح الأضاحي وامتصاصه غريزيًا، منذ نعومة أظافرهم. حتى ولو خلفت تلك الشعيرة تشوهات بليغة في وجدانهم.
إلا أن الذبح يمثل أقسى درجات عنف الإنسان. طالما يتطلب من الذابح أن يظل محدقًا في عيون المذبوح، موقنًا بأن الله يتقبل القربان، مثلما كانت تفعل الآلهة البدائية.
هل هي عودة مكبوت كامن في الأديان. أم عودة مكبوت كامن في الإنسان رغم الأديان. والتي طوت في المرحلة الإبراهيمية صفحة القربان البشري، أو هكذا يفترض؟
فعلاً، مضت عقود طويلة ساد فيها الاعتقاد بأن طقس التضحية بالإنسان تقربًا لله وقربانًا أصبح جزءًا من العالم البدائي البائد. وإن لم تفلح الديانات الإبراهيمية في كبح تلك الشعائر. إلا أن الزمن طواها بفعل التطور الأخلاقي للعقل البشري. لا سيما في الأزمنة الحديثة.
لا أحد كان يظنّ بأنّ تطور تقنيات العنف عقب عقود طويلة من استعمال المسدس والرشاش والقنبلة، سيأذن بعودة مكبوت الذبح بالسكين.
ارتبط اسم أبو مصعب الزّرقاوي بعودة ذلك المكبوت البدائي في شكل طقوس لقطع الرؤوس تحت صيحات التكبير وترتيل القرآن. ارتبط ذلك الاسم المروع بتحول في استراتيجية الرعب من مرحلة التفجير. حيث لا يرى المشاهدون من الرعب إلا آثاره. إلا مرحلة طقوس الذبح بالصوت والصورة. وبحيث يرى المشاهدون تفاصيل الرّعب كاملة، فتصاب عقولهم بالشلل. وينتهي مطافهم إلى الاستسلام لمصدر الرعب ذاته، أو هذا هو المتوقع. والغاية النهائية هي إعادة تثبيت سلطة “الموت المقدس” من جديد.
العشرية السوداء
صحيح أن بوادر ذلك التحول ظهرت إبان العشرية السوداء بالجزائر، حين انتشرت مجازر الذبح الجماعي بنحو رهيب في كثير من الولايات الجزائرية. غير أن التفاخر بالذبح لم يكن ساريًا. بل كان لا يزال متواريًا خلف قناع الإنكار. لكن مع الزرقاوي اتخذ الذبح طابع القداسة المعلنة.
قد يحار العقل والوجدان اليوم من حجم المواقع الجهادية التي تدافع عن منهجية إثارة الرعب في قلوب “الأعداء” بقطع الرّؤوس. واعتمادًا على آيات مقتطعة من النّص القرآني، معزولة عن سياق التّنزيل، وأحوال السائل، وظروف المخاطب، آيات مبتورة ومنتقاة من قبيل: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)، (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان)، والتي يعتبرها البعض أوامر إلهية مطلقة على طريقة عبد السلام فرج، الذي جعل من الآية (كتب عليكم القتال) دليلاً على أن القتال فرض عين على كل مسلم، قياسًا على (كتب عليكم الصيام)! يضاف إلى ذلك كله ما نُسب إلى الرسول: “جئتكم بالذبح!”. وبحيث أصبحنا أمام عصاب وسواسي تبدو معه مشاهد الذبح والعربدة بالسكاكين والسواطير كأنها فريضة عائدة تستوجب الاحتفاء والتفاخر والتوثيق.
يختزل قاطعو الرؤوس الخطاب القرآني في مجرد ضرب للرقاب وقطع للأعناق، ويختزلون الخطاب السني في مجرد ذبح ونحر. وكل ما عدا ذلك من آيات وأحاديث بالمئات يعتبرونه مجرد أحكام منسوخة أو أحاديث ضعيفة. وبهذا النحو فإنهم ينسخون ما يشاؤون ويُضعفون ما يشاؤون، ولله عاقبة الأمور!