هنالك من يحب الشعارات الحماسية ويعتبرها عنوانا لكل أفعالة، وهناك من يرفضها جملة وتفصيلا، صحيح أن بعضها غير ضار، وقد يكون مفيدا في فترات التعبئة الوطنية ضد مستعمر أو مواجهة خطر وجودي كالإرهاب، أو كارثة طبيعية أصابت الناس، فيصبح مقبولا ترديد شعارات تثير حمية المواطنين وتحمسهم دون تضليل.
من يستمع للخطاب الوطني في فرنسا أثناء قيادة الجنرال ديجول لحرب تحرير بلاده من المحتل النازي لا يشعر بفارق كبير عن خطاب التحرر الوطني في العالم العربي في مواجهة الاستعمار، سواء في المغرب الكبير أو مصر أو بلاد الشام.
والحقيقة أن مصر رفعت شعارات حماسية عبأت الناس في مواجهة العدوان الثلاثي في 1956 وساهمت في صمودهم وانتصارهم، وحين رفعت شعارات حماسية مجافية للحقيقة كانت هزيمة 67، ثم عادت بعدها إلى “الحماس الواقعي”، وأسست خطابها السياسي والإعلامي على أساس المهنية والحقيقة فنجحت في تعبأه الشعب في معركة حقيقية لتحرير الأرض وانتصرت في حرب 73.
ولذا لم يكن غريبا أن يتفاعل الناس بشكل إيجابي مع كل الشعارات الحماسية التي رفعت في الثمانينات والتسعينيات في مواجهة خطر الإرهاب ومع الشعارات والأغاني الحماسية في مواجهة الأخطار الوجودية التي هددت البلاد أثناء حكم الإخوان.
واعتبر الكثيرون أن الشعارات الحماسية ليست عيبا في حد ذاتها، خاصة أن البلاد الأضعف على المستوى الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري تعتبر أن بث الحماسة الوطنية في نفوس الشعب أمر لابد منه لتقليل الفارق بين تفوق محتليهم المعتدين في العدة والعتاد وبينهم، وبشرط ألا تكون هذه الشعارات مضللة تتحدث عن انتصارات وهمية أو إنجازات واهية.
والحقيقة أن أخطر ما تواجهه مصر في الفترة الأخيرة هو قيام البعض بسحب نفس “الشعارات التعبوية” المشروعة في أوقات الحروب والتهديدات الوجودية على مشاكل الإدارة والأداء والكفاءة والعدالة.
وتبدو قصة وزيرة الصحة مع قضية الشعارات لافتة وذات دلالة، فقد طالبت عقب توليها منصبها الوزاري منذ حوالي 4 سنوات بعزف السلام الجمهوري في المستشفيات، وتلاوة الأطباء لقسم ممارسة المهنة قبل عملهم (لم تطبق الدولة هذه المطالب).
والحقيقة نحن هنا أمام نموذج للشعارات “غير الحميدة” التي تضر ولا تنفع لأن المسؤول في هذه الحالة سيهتم باللقطة والصورة، على حساب الجوهر والمضمون وهي تعكس طريقة في التفكير اتضحت سلبياتها الجسيمة بعد ذلك.
نعم السلام الجمهوري يعزف في كل دول العالم في مناسبات محددة، وإن من يطالب بعزف النشيد الوطني في غير وقته ومكانة ينتمي لمدرسة تهتم بالشكل على حساب الجوهر، في حين أن كل الدول الجادة من الصين الشيوعية حتى أمريكا الرأسمالية تترجم وطنيتها بإنجازات تجري على الأرض في الصحة والتعليم والاقتصاد لا بالتباري في عزف النشيد الوطني.
شعارات الشكل على حساب الجوهر، واللقطة على حساب المضمون، كررها الكثيرون حتى أصبحت نمط حياة، واختارها البعض الآخر لكي يخفي عورات المضمون، فمشاكل المنظومة الصحية في مصر كثيرة من فقر الإمكانات وعدم الاهتمام بالبحث العلمي، وضعف رواتب الطواقم الطبية، وليس عدم عزف السلام الوطني في المستشفيات.
مدرسة الشعارات في غير محلها أو الشعارات التي تخفي المشاكل الحقيقة شهدنا تجلياتها في مجالات كثيرة ورفعها مسؤولين كثيرين، ولعلنا جميعا نتذكر نائبة محافظ الإسكندرية التي اتهمت في قضايا فساد ورشوة، وكيف كانت من أكثر المسؤولين رفعا للشعارات الوطنية حتى وصل بها الأمر إلى غناء أغنية “ما تقولش إية أديتنا مصر نقول حندي إية لمصر” في أحد الاجتماعات مباشرة قبل أن توجه لها تهم بالفساد.
وإذا كان جانب رئيسي من التحديات التي تواجها البلاد هي القدرة على الإنجاز والعمل والكفاءة والعدل فإن الأمر يتطلب أن يتمتع المسؤول بمجموعة من المواصفات المهنية لا علاقة لها بأن يبدأ بترديد النشيد الوطني أو بتكرار الشعارات الحماسية.
إن هذه المواصفات تعني عند الطبيب أن يحافظ على مرضاه ويحترم القسم الذي أقسمه بالفعل لا بالشعارات، وتعني بالنسبة للقاضي أن يحكم بالدستور والقانون، وللصحفي أن يؤدي عمله بمهنية ولا يزور الحقائق ويزيفها تحت ستار الشعارات الوطنية.
الشعارات الحماسية تصبح زائفة إذا جاءت لتشتبك مع تحديات ومشاكل لن تحل بالشعارات، بل أن الأمر تطور حتى أصبحت هذه الشعارات وسيلة لإخفاء المشاكل الحقيقية، من بطالة وارتفاع معدلات الفقر وتطبيق القانون على الجميع.
الشعارات الوطنية مثل التدين الشكلي كلاهما يهتم بالشكل والقشور على حساب المضمون والجوهر، وكلاهما يمكن قبوله إذا كان وسيله للحماس وبذل مزيد من الجهد في العمل والارتقاء بالسلوك وتحسين المعاملة، لا أن ترفع كشعارات يمارس عكسها في الواقع والممارسة.
الشعارات الحماسية التي تخفي الحقيقة هي نمط من التفكير وجد لكي يخفي العيوب، فهو من ناحية يحصن من يقوله لأنه يحول نقد أداء عام وخطط عمل يومية إلى نقد للوطن وتشكيك في الإنجازات وينقل النقاش إلى ساحة المطلقات والعموميات والشعارات التي تخيف الناس في حين أن المطلوب هو معالجة أوجه القصور للحفاظ على الإنجازات.
إن كل من يبدأ عمله في وزارته أو مؤسسته بالاهتمام بسلة الشكليات: دهان المبنى، تغيير الأثاث، الشعارات المعلقة على الجدران، النشيد والأغاني الوطنية، فتأكد أنه يخفي فشلة بعدم قيامه بعمله المهني على أكمل وجه برفعه هذه الشعارات لإخفاء أوجه قصور لا حدود لها.
الشعارات الكذابة والشكليات لا يجب أن تحاصر العمل المهني والجاد، وتغطي على أي نظام للمحاسبة فكل من يبدأ عملة بالشعارات الحماسية ويترك خطط العمل الحقيقية تأكد أنه يخفي مصيبة.
لقد أصبح لدينا “متخصصين” في صنعة “تظبيط ” شكل الشغل بدل من الشغل، ولذا علينا ألا نندهش أن يكون حملة مباخر الشعارات هم من أكثر من اتهموا بالفساد وغياب الشفافية وانعدام الكفاءة، والمطلوب ألا تصبح الشعارات حصانة أو مسوغات اختيار لأي شخص إنما فقط عمله وجهده وكفاءته ونزاهته هي معيار الحكم والتقييم.