يعرف كل المتابعين للتعليم الهندسي في مصر أن هذا القطاع يعاني معاناة شديدة شأنه شأن القطاعات التعليمية الأخرى. وإن كان التأثير الكبير الذي تؤثر به مهنة الهندسة والمهندسين في قطاعات مختلفة يلتحم ويشتبك معها المواطن يومياً من بناء وإنتاج ونقل وخلافه، فيظهر التأثير الشديد للمجتمع بالمنتج النهائي لعملية التعليم الهندسي وهو “المهندس”.
تخفيض عدد الساعات التدريس لطلاب الهندسة لتصبح 140 ساعة بدلاً من 160 ساعة، وتخفيض سنوات الدراسة الجامعية لهم لتصبح 4 سنوات بدلاً من 5 سنوات
وفي هدوء تام وبعيداً عن الأنظار تم تعديل لائحة التعليم الهندسي المرهق أصلاً بتخفيض عدد الساعات التدريس لطلاب الهندسة لتصبح 140 ساعة بدلاً من 160 ساعة، والتي كانت في الأساس حتى سنوات قليلة مضت 170 ساعة. ويستهدف هذا التعديل في الأساس تخفيض سنوات الدراسة الجامعية لطلاب الهندسة لتصبح 4 سنوات بدلاً من النظام الحالي وهو 5 سنوات.
ولا يخفى على أحد أن العديد من دول العالم ومنها دول أوروبية وأمريكية مدة التعليم الهندسي فيها هي 4 سنوات، وهو ما قد يكون السبب الرئيسي في هذا التعديل، حيث إن استقدام عدد من الجامعات إلى المدن الجديدة مثل العاصمة الإدارية والعلمين والجلالة اصطدم باللوائح الحالية، إذ إن تلك الجامعات تدرس الهندسة في أربع سنوات بينما المجلس الأعلى للجامعات لا يعتمد إلا خمس سنوات وفقاً لعدد ساعات التدريس المحدد وهو ما انعكس في وعد هذه الجامعات بتعديل نظام الاعتماد في مصر وتقليل عدد الساعات. وبدأت فعلاً بعض تلك الجامعات منذ نحو عامين في العمل واستقبال الطلاب بناءًا على ذلك.
وتكمن الخطورة الشديدة في هذا التوجه في تحديين رئيسيين لتطبيق هذا النظام:
التحدي الأول مرتبط بالحالة التعليمية المرتبكة في التعليم الهندسي في مصر، من حيث عدد الجامعات، وعدد الطلاب، ونظم التدريس، وإعداد هيئة التدريس، وتوافر الرسائل التدريبية للطلاب.
ونستعرضها سريعاً حيث إن لدينا 35 جامعة حكومية تضم كليات للهندسة، وتقوم منها 19 جامعة بتقديم برامج خاصة (بمصروفات)، وما يزيد على 61 جامعة وأكاديمية ومعهد خاص لتقديم برامج التعليم الهندسي، بالإضافة إلى ما أعلن عنه من إضافة نحو 40 جامعة جديدة في المدن الجديدة بالعاصمة الإدارية والعلمين والجلالة وبعض الجامعات في المشروعات الاستثمارية المرتبطة بالتطوير العقاري.
ويلاحظ أن هذه الأعداد الضخمة من الجامعات والمعاهد وبرامج التدريس الخاصة بالجامعات الحكومية ظهرت في العقدين الأخيرين بشكل متسارع أدى بالتأكيد مع زيادة أعداد المعاهد والجامعات إلى زيادة رهيبة في أعداد الطلاب لا تتماشى ما أعضاء هيئة التدريس، ويكفي أن تعرف أن تقرير لجنة قطاع التعليم الهندسي لعام 2017-2018 أشار إلى أرقام هامة جداً.
وبالإضافة لما هو واضح من مخالفتنا لكافة المحددات العالمية لنسب أعضاء هيئة التدريس للطلاب وأهمها في الهندسة المدنية تصل إلى 183 مقابل 85، وفي العمارة 81 مقابل 35، والكهرباء 58 مقابل 35، تجدر الملاحظة أن الأعداد الفعلية آنذاك تصل في المعاهد الخاصة إلى 81 ألفا مقابل طاقة استيعابية حقيقية 37 ألفا.
تراجع مستوى المهندس المصري كمنتج نهائي للعملية التعليمية لدرجة أدت لرفض بعض الدول استقدام مهندسين من مصر أو فرض قيود واختبارات خاصة للمهندسين المصريين
وهو مؤشر واضح أدى إلى تراجع مستوى المهندس المصري كمنتج نهائي للعملية التعليمية لدرجة أدت لرفض بعض الدول استقدام مهندسين من مصر أو فرض قيود واختبارات خاصة للمهندسين المصريين، وتؤدي بالطبع هذه الأرقام والتفاوت بين أعضاء هيئة التدريس لعدد الطلاب إلى عدم وجود علاقة بين الأستاذ وطلابه، أو بين المدرسين المساعدين والطلاب حيث تجد أن عضو هيئة التدريس يلهث بين الجامعات والمعاهد التي يدرس فيها ليقوم بتدريس محاضرته ويقوم بعضهم بالتدريس في أكثر من 3 أو 4 كليات ومعاهد.
التحدي الثاني وهو الأهم مرتبط بتركيبة النظام الهندسي المصري فالوضع الحالي يعتمد في الأساس على تلقي الطالب أثناء فترة الدراسة التي كانت 170 ساعة العديد من العلوم الأساسية والهندسية، التي تتيح بناء طريقة تفكير هندسية سليمة مع حد معقول من المعلومات الهندسية، تمكنه من أن يقوم بدوره كمهندس ويقوم باستكمال ذلك بالممارسة العملية دون وجود مسار تدريبي واضح أو ترتيب علمي ومهني ممنهج، وبالتالي كان للمعرفة الأساسية وبناء طريقة التفكير دور حاسم في تكوين أداء المهندس المصري، وهو الذي كان مميزاً حتى وقت قريب.
والحقيقة – وهذا خطأ – لا يوجد متابعة أو نظام يقيم المهندس وتطوير أدائه عبر نظام هندسي دقيق يقيس المطلوب لكل تخصص ويحدد مجموعة العلوم أو الأسس الهندسية الإضافية التي يجب على المهندس تلقيها في تخصصه؛ حتى يتمكن من ممارسة مهامه، في حين أن الدول التي يطبق فيها نظام الدراسة لعدد ساعات أقل والسنوات الأربع تمتلك نظاماً حديدياً واضحاً (نظام التدريب والتأهيل) واضحاً راسخاً لطرق تقييم المهندس وتطوره. وهنا يكمن التحدي الأكبر وهو أننا سنخرج مهندسين بنظام أقل تعريف له غير مرتبط بالممارسة لمهنة الهندسة في مصر ودون تجهيز كافٍ وإعداد للنظام الذي سيتلقى هذا الخريج، وبالتالي سنجد أنفسنا أمام مرحلة من الاختلال في ممارسة مهنة الهندسة قد تؤدي إلى كوارث كبيرة بالنظر إلى القطاعات التي تعتمد على مستوى المهندس.
الدول التي يطبق فيها نظام الدراسة لعدد ساعات أقل والسنوات الأربع تمتلك نظاماً حديدياً واضحاً لطرق تقييم المهندس وتطوره وهنا يكمن التحدي الأكبر وهو أننا سنخرج مهندسين بنظام أقل تعريف له غير مرتبط بالممارسة لمهنة الهندسة في مصر ودون تجهيز كافٍ
إن استيراد نظام دون اكتمال المعطيات اللازمة ستكون له عواقب كبيرة، وهذا رأي تقريباً كل من تناقشت معهم من الأساتذة المهتمين بالتعليم الهندسي في مصر، والمخرج يكمن في فترة انتقالية لا تقل عن خمس سنوات تستمر فيها نفس الساعات المعتمدة الحالية وإعداد نظام التدريب والتأهيل والمتابعة لما بعد التخرج وتجهيز المؤسسات التي يمكنها القيام بهذا الدور؛ بعيداً عن وزارة التعليم العالي المثقلة أصلاً، والتي تعاني من مشاكل عديدة معروفة لدى الجميع.
ويجب على العكس أن يكون هناك دور واضح لجهتين هامتين جداً في العمل الهندسي، الأولى نقابة المهندسين وهي المفترض الجهة المنوط بها طبقاً للقانون ضبط ممارسة المهنة وتطويرها وتطوير المهندس نفسه، والجهة الثانية هي جمعية المهندسين المصرية وهي الجمعية العلمية للمهندسين المنشأة منذ 1920 كجمعية علمية. وعلى حد علمي هي تقريباً الجهة الوحيدة التي يعين رئيسها بقرار من رئيس الجمهورية شأنها شأن الجمعيات العلمية الهامة في المملكة المتحدة التي تعين بقرار من الملك، وكذلك في بعض الدول الأخرى وهذه الجمعية عليها دور أن تكون الإطار العلمي لتطوير المهندس ووضع البرامج التدريبية والعلمية له في مختلف المراحل.