“إنني أتكلم بالطبع عن أزمة الطاقة، وهي أزمة بالغة الخطورة ولابد أن نجد لها حلًا. إن الواقع الذي يواجهنا كئيب جدًا، فقبل سنة 1973 كان الطلب على النفط يتجاوز المعروض منه، وكانت تلك مشكلة. ولكن المشكلة تحولت إلى أزمة خانقة لأننا فوجئنا ومن غير تحذير مسبق ولأول مرة بحظر على النفط يهدف إلى تحقيق أغراض سياسية ثم تلت ذلك زيادة في أسعار النفط رفعت تكاليف هذه السلعة الاستراتيجية التى لا غنى للعالم عنها بنسبة 400%. وكان تأثير ذلك فادحًا على كل مجتمعات الغرب وعلى المستوى العالمي. والتحدي الذي يواجهنا هو أن نتصدى لهذا الوضع الطارئ ونعيده إلى نطاق السيطرة. ولابد أن ندرك أننا أمام ضرورة الاختيار وحتمية القرار”. قال الثعلب الأمريكي ألمانيُ الأصل هذا الكلام في محاضرة له بجامعة شيكاجو في نوفمبر 1974 بعدما طرح في فبراير من هذا العام بمؤتمر عُقِد في باريس برنامجًا من سبع نقاط تتركز في ترشيد استهلاك الطاقة، البحث والتنقيب عن مصادر بديلة للنفط، تخصيص استثمارات ضخمة لتمويل عمليات البحث والتنقيب تلك، العمل على بلورة ترتيبات تعاونية للمشاركة بتوزيع الطاقة في حالات الطوارئ، الاتفاق على نظام مالي جديد لتعويض المتضررين في حالة ارتفاع الأسعار، العمل على تخفيض تكلفة الطاقة عن الدول الفقيرة، تطوير نمط جديد للعلاقة بين المنتجين والمستهلكين للنفط.
لم يلبث الثعلب الأمريكي إلا وقد عَدَّل في صيغة السبع نقاطٍ تلك حين عاد إلى واشنطون. يروي الأستاذ محمد حسنين هيكل بكتابه “حرب الخليج” الصادر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر في 1992 وذلك حسب قراءته الشخصية لمذكرات الرجل أن أمريكا قد اختارت سياسة مختلفة تقوم أيضًا على سبع نقاط: “الإمساك بزمام عملية البحث عن حل لأزمة الشرق الأوسط وترتيب ذلك على سياسة الخطوة خطوة بحيث تتوافق الخطى مع استعادة السيطرة على موارد الطاقة، واعتبار إسرائيل الرادع الأساسي في الشرق الأوسط ورفع درجة العلاقة معها كي تصبح علاقة إستراتيجية، فإسرائيل هي العنصر الذي أدى بالعرب في النهاية إلى قبول حل أمريكي للأزمة كما وأن استمرار إحساس العرب بتهديدها هو الضمان بهرولتهم دائما إلى أبواب البيت الأبيض، القبول بارتفاع أسعار النفط والعمل على امتصاص الفوائض المتولدة من زيادة الأسعار وتدويرها بواسطة البنوك الأمريكية الكبرى وتشجيع الأموال الباقية في يد العرب على أنماط في الاستهلاك تهدر الثروة ولا تحفظها، كسر تحالف أكتوبر الذي جمع على غير انتظار بين الجيوش العربية القادرة على القتال وبين منابع النفط العربي المعبأة بالذهب الأسود، استخدام جزءا من فوائض الأموال العربية ليكون هو نفسه الاستثمار الذي يوجه لتوفير بدائل للطاقة منافسة للنفط العربي، العمل على خلق حساسيات بين العرب وبين العالم الثالث وخصوصا أفريقيا فقد نجح العرب خلال أزمة أكتوبر في إقناع معظم الدول الأفريقية بقطع علاقتها مع إسرائيل، تشجيع الرئيس السادات على خطته في إخراج السوفييت تماما من الشرق الأوسط سواء كنفوذ سياسي أو كمصدر للسلاح”.
وقد كانت قراءة الأستاذ هيكل مستندة بالأساس في خلفيتها إلى فهم خاص لرأي الرجل بشأن ضرورة منع العرب من استخدام النفط مصدر الطاقة الوحيد ثانيةً كسلاح في أي معركة سياسية لابتزاز أمريكا والضغط عليها كدولة ترى نفسها قائدًا وحيدًا للعالم، ولعل هذا هو ما حفز أمريكا في وقت لاحق لقيادة دول التحالف وحثها على التدخل السريع لأجل طرد “صدام حسين” من الكويت حتى لا يتمكن من السيطرة على نفط الشرق الأوسط بما يضعه في موقع تَحَكُمٍ لا تريده.
تذكرت كيف نجح الثعلب في انتزاع ملف الشرق الأوسط من أصحابه التقليديين: الخارجية والاستخبارات الأمريكية ليحمله في قلبه وعقله حين كان مستشارًا للأمن القومي، ثم إذا به يعيد ترتيب كل أوراق ذلك الملف -الذي تمسك به وكأنه مرهون باسمه أيًا كان منصبه- خالطًا إياها بين النفط والأرض والسلام بعدما صار وزيرًا للخارجية. تذكرت “هنري ألفريد كيسنجر” ولم أستطع أن أمنع نفسي من مقارنته بالجالس حاليًا في مكانه، “جيكوب جيريمايا سوليفان” لأطرح بعض التساؤلات على نفسي عَلَني أجد على نَارِ إجاباتها هُدى. ما الذي يحدث حاليًا في أروقة المستشارية على وقع الأزمة التي قارب شهرها الأول على الانقضاء بلا أمل في حلٍ حاسمٍ قريب؟
هل تغيرت استراتيجية المستشارية القائمة على المبادرة فصارت تكتفي فقط بالإعلان عن فرضٍ للعقوبات ثم المزيد منها مُنتظرة ما يقوم به الطرف الآخر كي تتحرك رغم ما يُفترض أنها قد استوعبته من دروس تاريخية بفعل الأزمات الدولية المتمحورة حول مصادر الطاقة والتي كان لكيسنجر ومدرسته أثر بالغ في إرساء أساليب التعامل معها؟ هل سنشهد حَدَثًا ضخمًا غير تقليدي يعكس فهمًا متطورًا لدى المستشارية لآثار الأزمة وتبعاتها المستقبلية؟ لم أكن لأتحسس طريق الإجابة دون التعرف على التوصيف الوظيفي لمنصب “مستشار الأمن القومي” بغرض تحديد ما إذا كان الأمر يتعلق بشخصية غير متكررة لرجلٍ أدى وظيفةً ما فأثَر فيها وجعلها مَناط اهتمام ومركز ترقب العالم حين أدرك أزمة رئيسه حينذاك (ريتشارد نيكسون) وانشغاله بمصيبته التي دفعته خارج دائرة التاريخ، فاقتنص -مدعومًا بمراكز ضغط هائلة- مهاما غير مُعتادٍ عليها كملف الشرق الأوسط مثلا ليظل تحت إدارته لفترة طويلة من الزمن مليئة بأحداث جِسام من ناحية عمق أثرها وتأثيرها في رسم علامات المستقبل وحدوده الإستراتيجية لتعود لتلك الوظيفة -بعد تركه لها- سيرتها الأولى.
وفقًا للأدبيات السياسية الأمريكية، فإن مهام وظيفة مستشار الأمن القومي هي تنسيقية واستشارية للرئيس حيث يقدم له ملخصات الوثائق والمقترحات والتوصيات التي تصدرها الوزارات المختلفة بما يقتضي ضرورة أن يتحلى بقدرة واسعة على الربط بين وجهات النظر والتوفيق بينها والتي في غالب الأحيان ما تكون متعارضة من الزاوية الفنية وهو أمر يستدعي أن يكون شاغل المنصب مدركًا لمبادئ الدستور الأمريكي والقوانين المنبثقة عنه وأن يكون منضبطًا وأمينًا لكنه مرن غير مُتشَدِدٍ في نفس الوقت. وفقًا لهذا الاستعراض السريع، فأظن أن كيسنجر كان -كصُدفة تاريخية أصابت موضعها بمنتهى الدقة- بمثابة الاستثناء الذي لن يتكرر في هذا المنصب بما يضع المستشار الحالي “جيك سوليفان” والإدارة الأمريكية برمتها في مأزق كبير إن قورن به خصوصًا وأن العالم يمر الآن بظرف شبيه بما مر به منذ ما يقرب من نصف القرن، وهو ما يحيل تساؤلاتي إلى الضفة الأخرى من الأطلنطي بحثًا عن إجابة.
كما كان للرئيس الفرنسي “فاليري جيسكار ديستان” مساهمة واضحة لتنبيه العالم إلى أزمة النفط العربي بعد حربنا الخالدة في 1973 لكن “كيسنجر” أزاحه برسم عوامل عديدة، كان للمستشار الألماني “أولاف شولتز” قصب السبق في الحوار حول أزمة الغاز الروسي، إذ إنعقد منذ أقل من الأسبوع في برلين مؤتمرعن الطاقة النظيفة طُرِحت فيه أفكار تمحورت حول أن الموضوع لم يَعُد بيئيًا أو مناخيًا محضًا لكنه اكتسب صبغة سياسية وأمنية واقتصادية باعتبار أن التحول للطاقة النظيفة لا يقضي فقط على ظاهرة الاحتباس الحراري لكنه يرسخ الاستقلال عن إمدادات الطاقة باعتباره (الاستقلال) هو أساس أمن ألمانيا القومي بالاستغناء عن الغاز الروسي بالكامل. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فقد تمت مناقشة أن هناك مخاطر تنذر باعتمادات جديدة، مثل ضمان تأمين الموادّ الخام اللازمة لتصنيع البطاريات أو الألواح الشمسية لتخزين الطاقة النظيفة. قالت وزيرة الخارجية الألمانية “أنالينا بربوك” بالنص في تعبير بالغ الأهمية عن الإدراك المُلِح لتبعات الأزمة: “إن حماية المناخ وانتقال الطاقة لا يحددان فقط مستقبل كوكبنا ومستقبل عائلاتنا وأطفالنا، لكنهما يحددان كذلك المصالح الأمنية والجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين، فالحرب العدوانية الوحشية التي يشنّها بوتين على أوكرانيا قدر ما هي انتهاك للقانون الدولي وما تسببه من معاناة كبيرة لملايين الأشخاص، فهي بنفس القدر تدفعنا إلى أن نصبح مستقلّين تماما عن واردات الوقود الأحفوري الروسي”. أما عن “روبرت هابيك” وزير الشؤون الاقتصادية والعمل المناخي الألماني، فقد كان أكثر وضوحًا وكان حديثه أشد صرامة، فأشار بصراحة تامة إلى خطأ ألمانيا بالاعتماد على الغاز الروسي بنسب عالية حيث قال: “كلما كان التأثير السياسي أقل كلما كان الرفاه أعلى في العالم، حيث ارتُهِنت بلادنا للغاز الروسي، فـ55% من إمدادات الغاز لها تأتي من روسيا، وقد ظللنا صامتين بسبب هذا الارتهان على التدخل الروسي في الأزمة السورية واحتلالها للقرم.
لقد كان يتعين علينا أن نلتفت إلى ما قامت به روسيا في هذه الدول ونخفّض اعتمادنا على الروس وارتهاننا لهم. يمكننا التأكيد أنّ الطاقة الأحفورية تخلق احتكارات سياسية واستثمارية، وترسخ أنظمة استبدادية بعكس الطاقة النظيفة، حيث لا يمكن لأحدٍ احتكار الريح أو الشمس فاستخدام الطاقة النظيفة يضمن عالمًا أكثر عدلًا وأمانًا.”
أظن أن ملامح ملفاتٍ يختلط فيها السياسي بالأمني بالبيئي بدأت تتضح معالمها ستكون على جدول أعمال COP27.. والله أعلم.