انحرف التاريخ المصري الحديث والتوى عن مساره الطبيعي مرتين. مرة على يد محمد علي باشا الأرناؤوطي وسلالته من بعده. ثم مرة ثانيةً على يد ثورة 23 يوليو 1952. ومن تعاقب على حكم مصر من ضباط الجيش من محمد نجيب 1953م إلى عبدالناصر إلى السادات إلى مبارك إلى السيسي إلى ساعة كتابة هذه السطور في الأسبوع الأول من مايو 2022.
وخلاصة هذا الانحراف التاريخي المتواصل أن الدولة الحديثة لم تبرح أحد موقعين: إما خديوية قوية لكنها تنتهي مهزومة مثل خديوية محمد علي باشا الأرناؤوطي ثم خديوية جمال عبدالناصر. وإما خديوية تبدأ ضعيفة وتنتهي ضعيفة مثل باقي الخديويات قبل ثورة 23 يوليو 1952 وبعدها.
في الانحراف ثم الالتواء الأول كانت مصر جاهزةً لحداثة من الداخل. فأوقف محمد علي باشا الأرناؤوطي تطورها بل خنقها ثم وأدها. ثم أسس حداثة مصطنعة مجلوبة من أوروبا. حداثة لم تكن غير قشور. بعضها كان مصيره الزوال في حياته وقبل مماته. وبعضها باق فوق سطح الأرض لم يمتزج بها. وما تعمق وتمصر من الحداثة الأوروبية هو ما استوعبه منها المصريون بجهدهم تعليمًا وهضمًا واختيارًا وممارسةً وتطبيعًا له في السياق المصري.
وفي الانحراف ثم الالتواء الثاني كانت مصر جاهزة للتحول إلى جمهورية ديمقراطية لكن ثورة 23 يوليو 1952 انحرفت بها والتوت إلى جمهورية ديكتاتورية هشة يتناوب عليها ضباط من الجيش. ومثلما كانت الخديويات متشابهة فإن الفترات الجمهورية تتشابه كذلك. وكلتاهما -فترات الخديوية وفترات الجمهورية- يغلب عليهما الطابع الخديوي. حيث الحاكم مالك للبلد. وحيث البلد ضيعة للحاكم. وحيث الشعب عليه أن يسكت أو يشكر ثم لا ينطق ولا يتكلم ولا يحتج ولا يغضب. فليس له في ذلك حق.
وتمتاز الخديويات الحديثة كافة -من محمد علي باشا الأرناؤوطي إلى يومنا هذا- بسمة جوهرية مشتركة. هي: الخوف من الشعب ومن يقظته ومن مطامحه في الحرية والعدالة والكرامة. بما في ذلك الخديويات التي رفعت شعارات الحرية والعدالة والكرامة مثلما في فترة الرئيس جمال عبدالناصر.
كيف يتم إسكات الشعب واحتواؤه وتزييف وعيه والتحكم فيه ووضعه تحت السيطرة -السيطرة الكاملة؟
هذا السؤال كان وما يزال هو الشاغل الذي يسيطر على تلافيف عقل الخديويات الحديثة من مطلع القرن التاسع عشر حتى خاتمة الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.
***********
في السنوات الخمس -بين رحيل الفرنسيين عن مصر 18 أكتوبر 1801 وتولية محمد علي باشا حكم البلاد بإرادة الشعب 13 مايو 1805- تبلورت ملامح نهضة مصرية بازغة. أتناول هنا الشق السياسي منها.
الشق المعني بسلطة الحكم: من يحكم؟ كيف يصل إلى الحكم؟ كيف يمارس الحكم؟ مصالح من يخدم؟ حق الشعب في توليته ثم مراقبته ثم عزله. حق الشعب في اختصام الحاكم أمام القضاء. استقلال سلطة القضاء عن سلطة الحاكم. نفاذ سيادة القضاء فوق قوة الحاكم. تمتع الشعب باستقلال مدني. حق الشعب في ممارسة حريات الاجتماع والاحتجاج وصولًا إلى حق الثورة وتغيير منظومة الحكم بكاملها. حق الشعب في مقاومة مظالم السلطة في إطار المشروعية السياسية.
هذه الأسئلة الكبرى هي جوهر الفقه الدستوري الذي حاربت لأجله شعوب أوروبا قرونًا طوالًا حتى اهتدت إليه ولم يستقر في صورته المثلى إلا في القرن العشرين.
وهنا يلزم -بخصوص الحالة المصرية- الإشارة إلى حقائق عدة:
– الأولى: أن الفقه الدستوري لدى المصريين في تلك السنوات بين رحيل الفرنسيين وتولية محمد علي باشا الأرناؤوطي كان سابقًا على عصره في عموم الشرق. وكان يقف كتفًا بكتف ورأسًا برأس مع الفقه الدستوري في البقاع المستنيرة من أوروبا.
– الثانية: أن الفقه الدستوري المصري في تلك السنوات لم يكن مستوردًا من كتب أوروبية ولا مستلهمًا من دساتير أوروبية. فلم تكن ثمة بعثات تعليمية لأوروبا ولا صحافة حديثة تنقل ما يدور في أوروبا. ولا تعليم حديث على النمط الأوروبي. لم يكن شيء من ذلك قائمًا ولا متاحًا ولا ممكنًا. ناهيك بأن الفقه الدستوري الأوروبي -ذاته- كان يحبو على كفيه وركبتيه في مراحله الأولى.
– الثالثة: أن الفقه الدستوري المصري كان نابعًا من مقومات ومكونات الثقافة المصرية المحلية المحضة دون أدنى مؤثرات أوروبية. كما تبلورت قسماته وملامحه من تراث المصريين الجمعي -بكل أطيافهم الطبقية والدينية والحضرية والريفية- ضد عسف وخسف وظلم المزدوج الاستغلالي الظالم: المماليك والأتراك.
– الرابعة: أن الفقه الدستوري المصري في تلك السنوات لم يكن حبرًا على ورق تتم كتابته في غرف مكيفة. إنما كان نضالًا حركيًا فعليًا واقعيًا ميدانيًا جريئًا وشجاعًا تدربت وتمرنت خلاله جمهرة المصريين على الوقوف -الجمعي- في وجه السلطة مملوكية كانت أم تركية. ولم يكن النضال الجماهيري مجرد هبات خاطفة تثور ثم تبور. بل كانت عزمًا متواصلًا ممتدًا عبر سنوات.
– الخامسة: أن هذا النضال كانت تقوده طبقة سياسية رائدة وقائدة -بالمعنى الحديث- من علماء ونقباء وقضاة وصناع وتجار وأصحاب مصالح مشروعة وجمهرة المصريين. هذه الطبقة تكونت في الشارع عبر نضال ينطوي على خطر المواجهة العنيفة مع مماليك عاشوا بالسلاح وأتراك عاشوا بالتآمر.
– السادسة: هذا الفقه الدستوري أسس لشرعية الكفاح للقضاء على المماليك وما يمثلونه من استغلال. كما أسس لشرعية المواجهة مع العسف التركي وما يمثله استهانة بحق الشعب ومصير البلد. فلم يكن محمد علي باشا الأرناؤوطي مَن فعل ذلك ولا مَن بدأ ذلك.
– السابعة: بمقاومته لمزدوج المماليك-العثمانيين كان الفقه الدستوري المصري عند مطلع القرن التاسع عشر يضع بذور الدولة الحديثة والمجتمع الحديث والطبقة السياسية الحديثة.
– الثامنة: من مجافاة الحقيقة ومن غير العدل أن يتم التغافل عن ذلك أولًا. ثم يتم نسبته إلى محمد علي باشا الأرناؤوطي ثانيًا. ثم إلى التأثير الأوروبي المستورد ثالثًا.
– التاسعة: أن كل دور محمد علي باشا الأرناؤوطي من 1805-1849 هو إعاقة كل ما سبق ثم دفنه ثم تسميم التربة السياسية المصرية بحيث لا تصلح لإنبات مثل هذا الفقه ولا مثل هذه الطبقة ولا مثل هذا الشعب.
– العاشرة: تحديث محمد علي باشا لم يكن غير ليّ للمسار المصري الطبيعي والانحراف به في متاهات لا تزال حاضرة إلى يومنا هذا. متاهات تركز على شكل الدولة دون مضمونها مع تنمية من أعلى تتغافل عن معنى المجتمع وحقائقه.
***********
لم يكن محمد علي باشا الأرناؤوطي سعيدًا بالشروط التي أملاها الشعب عليه يوم توليته -بإرادة المصريين وليس بفرمان من السلطان العثماني- في 13 مايو 1805 بعد شهور متواصلة من الحراك الثوري الحديث ضد المماليك والعثمانيين معًا. كان محمد علي باشا ينطوي في أعماقه على المثالب السياسية للمماليك والعثمانيين معًا. كان فيه من تمرد وغدر المماليك مثلما فيه من تآمر الترك العثمانيين. لم يكن -في ثقافته وتكوينه الشخصي- يرتقي لجلال اللحظة الثورية التي جاءت به إلى حكم مصر. فأضمر ثم -لما تغيرت موازين القوى- أظهر خلال ما يقرب من نصف قرن من الخصال السياسية ما انطبعت به الدولة الحديثة حتى يومنا هذا. حيث:
– وضع نهاية للحراك الشعبي وحرّمه وجرّمه وما يزال هذا من تقاليد الدولة الحديثة إلى وقت كتابة هذه السطور.
– قضى على استقلال الرأسمالية الوطنية من صناع وتجار وما يزال هذا التقليد ساري المفعول إلى وقت كتابة هذه السطور.
– قضى على حق الشعب في اختصام الحاكم أمام القضاء وهذا نهج مستقر ومستمر إلى وقت كتابة هذه السطور.
– قمع ومنع ظهور قيادات ونخب مدنية وشعبية من صفوف الشعب وهذا تقليد سائد حتى وقت كتابة هذه السطور.
– قمع ومنع أي تكوينات أو مبادرات خارجية تحكم أجهزة الدولة وسيطرتها ولا تزال هذه تقاليد حية نابضة حتى كتابة هذه السطور.
هذه الدولة الحديثة -بالكيفية التي أسسها محمد علي باشا- أحلت كل ما هو سلطوي مكان كل ما هو إرادة شعبية. وأحلت كل ما هو أجنبي مكان ما هو مصري. وأحلت كل ما هو حكم فردي مطلق مكان كل ما هو مشورة أو رأي الناس أو كلمة الجماهير. وعلى نهجه سارت كل الخديويات من بعده. خديويات من سلالته. وخديويات من ضباط الجيش.
لم يكن محمد علي باشا سعيدًا ونواب الشعب هم من يُجلسونه على الكرسي. لسبب بسيط: من يملك حق توليته يملك -بالبداهة- حق عزله.
والمزدوج المملوكي-العثماني في أعماقه وفي دمه لا يستسيغ هذا ولا يهضمه. فقد اجتمع -حسبما يقول الرافعي وحسبما ينقل عن الجبرتي وفولايل- وكلاء الشعب من العلماء والنقباء والصناع والتجار. وتم الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم وألا يفعل أمرًا إلا بمشورة العلماء والنقباء والصناع والتجار وأنه متى خالف هذه الشروط عزلوه.
هذه القاعدة: حق الشعب في تولية الحاكم ومراقبته وعزله هي خلاصة الفقه الدستوري في يومنا هذا. وقد سبق بها المصريون عند مطلع القرن التاسع عشر. وطبقوها بالفعل عندما عزلوا من عيّنه السلطان العثماني وأجلسوا على الكرسي حاكمًا لم يرد به فرمان من السلطان.
هذه القاعدة تتم صياغتها -في أيامنا- كالآتي: حق الشعب في اختيار حكامه بملء إرادته. وحقه في مراقبتهم ومحاسبتهم ومساءلتهم ونقدهم علنًا دون خوف من عقاب أو انتقام. وحقه في محاكمتهم بالدستور والقانون ثم حقه في عزلهم عندما تقتضي وتستدعي المصلحة الوطنية عزلهم.
***********
في تلك السنوات من مطلع القرن التاسع عشر كان الفقه الدستوري يقر حق الشعب في تولية الحاكم وعزله. وعندما سأل مستشار الحاكم المعزول قائد الثورة ونقيب الأشراف عمر مكرم: كيف تعزلون من ولاه السلطان؟ أجاب: من حقنا أن نعزل مَن ولاه السلطان إذ المهم هو رضا الناس. وزاد على ذلك بأن قال: من حقنا عزل السلطان إذا انحرف عن العدل إلى الظلم.
لم تكن الثورة حركة غوغاء ودهماء تجوب شوارع القاهرة وميادينها. كانت حركة اجتماعية منظمة. فقرار تولية محمد علي صدر عن القاضي أو ما يسميه عبدالرحمن الرافعي “المحكمة الكبرى”.
– قرار تولية محمد علي باشا نص على حق الشعب في عزله إذا انحرف وأساء استخدام السلطة وتجاهل إرادة الشعب.
– قرار عزل الوالي العثماني نص على: “للشعوب وفقًا لما جرى به العرف قديمًا ولما تقضي به أحكام الشريعة الإسلامية الحق في أن يقيموا الولاة. ولهم أن يعزلوهم إذا انحرفوا عن سنن العدل. لأن الحكام الظالمين خارجون على الشريعة”.
لأجل هذا خلق محمد علي باشا الأرناؤوطي طبقة بديلة للمصريين. طبقة عازلة للمصريين عن شؤون الحكم. فأخذ يستقدم الأجانب من كل شكل ولون: عبيد سود. مماليك بيض. رعايا عثمانيين. جنسيات أوروبية وبالذات من الفرنسيين. جاء بكل هؤلاء ليكونوا قادة حكمه وتحت جناحه بل وتحت رجليه. ليحلهم مكان الطبقة السياسية المحلية البازغة. ولينحرف بمسار التاريخ في الاتجاه المضاد أو قل تجاه الثورة المضادة.
هؤلاء الأجانب لم تكن لهم مصلحة في عزله. بالعكس كانت مصلحتهم في تخليده وفي كامل هيمنته ليكون قادرًا على منحهم الأعطيات السخية. هؤلاء الأجانب هم مَن خلعوا عليه ألقاب “نابليون الشرق” و”بونابرت أفريقيا” و”مؤسس مصر الحديثة” إلى آخره من الألقاب التي كان يسعى لها ويحب نشرها وترويجها.
هذه الطبقة الأجنبية البديلة والعازلة كانت هي -قبل الجيش ذاته- أداته في لي مسار التاريخ والانحراف به إلى حيث وصلنا الآن.
***********
كيف لوت الطبقة البديلة والعازلة مسار تاريخنا الحديث؟
الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.