أجريت أول انتخابات برلمانية تعددية في إسبانيا ما بعد فرانكو في صيف 1977، وفاز فيها التحالف المحافظ الذي يتزعمه رئيس الحكومة سواريث، ولكن دون أغلبية، فشكل حكومة أقلية، بينما تمكن الحزب الاشتراكى، الناتج عن اندماج عدد كبير من الأحزاب اليسارية الصغيرة بقيادة فيليبى جونثالث، الذي كان وقت وفاة فرانكو يقيم فى باريس وعمره 33 عاما، ومجموعة من الشباب المقيمين فى المهجر، من أن يصبح القوة السياسية الثانية، على حساب الحزب الشيوعي الذي لم يتعد نصيبه 10% فى مفاجأة هدأت من روع أطراف عديدة فى إسبانيا وخارجها.
إلا أن طريق التحول الديمقراطي كان لا زال طويلا، حيث بقيت العديد من المطالب السياسية والقومية (الانفصالية) معلقة، كما تصاعدت الأزمة الاقتصادية، ومعها مطالب اقتصادية واجتماعية مختلفة، وعمت البلاد -فى غيبة النهج الأمنى القديم- حالة الاضطراب فى صورة تظاهرات وإضرابات واعتصامات بل وأعمال عنف وقطع للطرق والسكك الحديدية، شاركت فيها حركات سياسية وعمالية متشددة، وتنظيمات متطرفة وأناركية (معادية لفكرة السلطة)، بالإضافة إلى الإرهاب الذي راح ضحيته المئات، وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، واضطراب شديد فى الحياة العامة.
الصفقات الكبرى:
وربما كانت أهم خطوتين أنقذتا البلاد وجسدتا فاعلية النهج التفاوضي التوافقي الذي تبنته القيادة الإسبانية، وجذبت إليه القوى السياسية والمجتمعية المختلفة بحنكة وإصرار، هما التوصل لاتفاقات مونكلوا Moncloa Pacts فى أكتوبر 1977، وصياغة الدستور وإقراره في ديسمبر/كانون الأول 1978، وهو ما أثبت أن بناء أساس سياسي توافقي قوي، كان مقدمة ضرورية لإنقاذ الاقتصاد وتحقيق الأمن.
فبعد الانتخابات، أصبح على الحكومة اتخاذ إجراءات عاجلة لتهدئة الأزمة الاقتصادية، إلا أنها أدركت أن ثبات هذه الإجراءات وتحييد فرص الاستغلال السياسي لمعاناة من يتحملون عبئها، وتجنب مزايدة المعارضة على الحكومة، يتوقف على توفر مساندة سياسية من المعارضة، وتقليص عدد من يرغبون فى إفشال جهود الإصلاح. إزاء ذلك قام رئيس الحكومة سواريث بالدعوة إلى مؤتمر فى مقره الرسمى بحى مونكلوا Moncloa فى مدريد دعا له قيادات الأحزاب الرئيسية، وأصحاب الأعمال، والنقابات العمالية، معتبرا أن الجمع سيظل فى حالة انعقاد إلى أن يتم التوصل لصفقة متكاملة تغطى الملفات السياسية (التي كانت من أولويات القوى السياسية) والملفات الاقتصادية (التي كانت تهم الحكومة وأصحاب الأعمال والنقابات) بشكل يحقق لكل طرف نسبة معقولة من المكاسب، مقابل تنازله عن بعض مطالبه، بحيث يقف الجميع موحدين وراءها.
وقد كانت اتفاقات مونكلوا Moncloa Pacts التي أفضت إليها هذه المفاوضات نقطة تحول محورية، نقلت الدولة والحوار الوطني نقلة كبرى إلى الأمام، حيث شملت تقنين حرية الرأي والتعبير والصحافة وإلغاء الرقابة على الإعلام، وتوسيع الحريات الشخصية والاجتماعية (وهى مطالب القوى السياسية)؛ وإجراءات اقتصادية هامة وصعبة للسيطرة على التضخم وعجز الميزان التجاري وإصلاح النظام الضريبي، وهى مطالب الحكومة؛ وتعديل نظام الضمان الاجتماعي وتقنين حقوق العمال، وهى مطالب النقابات العمالية؛ وإصلاح النظام المصرفي وتبني سياسات لتنشيط مختلف قطاعات الاقتصاد، وهى مطالب اتفقت عليها الأطراف المختلفة.
والمفارقة فى اتفاقات مونكلوا هي أن كثيرا من الاقتصاديين اعتبروا أن شقها الاقتصادي لم يكن نموذجيا، واحتوى على حلول وسط سياسية لا تعبر بالضرورة عن أفضل رؤية اقتصادية للتعامل مع مشاكل إسبانيا، إلا أن تأثيرها على أداء الاقتصاد كان إيجابيا للغاية، حيث مكنها من تطبيق إجراءات صعبة فى المدى القصير باتفاق وطني صلب، أعقبها استعادة النمو والتحديث بسرعة كبيرة، أهلها أن تكون معجزة اقتصادية أوروبية، ليس فقط نتيجة ارتفاع معدلات النمو، وإنما أيضا لما حققه اقتصادها من تطور وتحديث سريع، ونجاحها فى حسن توزيع ثمار النمو فى المجتمع.
وقد مهدت اتفاقات مونكلوا المناخ للخطوة التالية والأهم والأكثر حساسية واستمرارية، وهى الدستور، والذي جرت المفاوضات حوله على مستويين: الأول الرسمي، من خلال لجنة من سبعة أشخاص يمثلون القوى السياسية الرئيسية: الحزبين الكبيرين، والحزب الشيوعى، والحزب الشعبى المحافظ، وممثل للأحزاب الإقليمية؛ كلفت بصياغة مسودة تعرض على البرلمان ثم على استفتاء شعبي؛ والثاني غير رسمي، تم من خلال اتصالات مباشرة وغالبا بعيدا عن الأضواء بين الملك نفسه، ورئيس الحكومة، وفيليبي جونثالث زعيم الحزب الاشتراكي، وسانتياجو كارييو زعيم الحزب الشيوعي، وهى التي تولت إزالة العقبات التي تعرقل المفاوضات الرسمية، والاتفاق على التسويات التاريخية الكبرى فى الدستور. ومن خلال الآليتين تمكنت الأطراف الإسبانية الرئيسية من التوصل لبناء دستوري متكامل، يقيم دولة ديموقراطية حديثة على نمط الديموقراطيات الغربية، تضمن تسويات تاريخية تستوفى الحد الأدنى من مطالب كل الأطراف، على النحو التالى:
- تَبَنِّى الملكية الدستورية، كحل وسط بين المتمسكين باستمرار النظام الملكي، والجمهوريين الذين يرفضونه لارتباطيه بالاستبداد، من خلال الإبقاء على الملك كرمز للدولة، مع جعل رئيس الحكومة رأس السلطة التنفيذية، بل ومنحه لقب President of Government غير المعتاد فى الملكيات، وتفصيل الحقوق والحريات كما حرص الديموقراطيون.
- منح أقاليم إسبانيا الـ18 سلطات حكم ذاتي واسعة، بما يستجيب نسبيا للمطالبين بالاستقلال، ودون أن يستفز الحريصين على وحدة إسبانيا.
- صياغة سلسلة من حلول الوسط التفصيلية من خلال تنازلات متبادلة حول دور الدين والكنيسة، والتوازن بين اقتصاد السوق والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والتنظيم الإداري للدولة ودور الأجهزة الرقابية.
أسفرت الخطوات خلال سنوات قليلة عن تبلور نظام يقوم على حزبين كبيرين، يملكان كل المقومات الضرورية لتحمل مسئولية الحكم، بل أنهما أصبحا من أكبر الأحزاب الجماهيرية في أوروبا، وهما الحزب الشعبي المحافظ الناتج عن انصهار المكونات الأكثر عقلانية من نظام فرانكو، مع القوى المحافظة الديموقراطية (وأهمها الليبراليون والمسيحيون الديموقراطيون)؛ والحزب الاشتراكي الذي اتسع ليضم قسما رئيسيا من أعضاء الحزب الشيوعي الإسباني بعد انشقاقهم عنه. كما تواجدت مجموعة من الأحزاب الصغيرة الأخرى، وهي تحديدا الحزب الشيوعي، والأحزاب القومية الإقليمية (في الباسك وكتالونيا وجاليثيا وكنارياس) التي لعبت دورا هامشيا -لكنه مفيد جدا- في الحياة السياسية، وهو توفير بديل سلمى وديمقراطي لعقائد سياسية أو قومية يمكن أن تصبح خطرا على الاستقرار والأمن لو لم تجد قناة شرعية تعبر من خلالها عن مصالحا وأفكارها، تستطيع من خلالها التأثير على السياسات، بحيث يصبح لها مصلحة فى الحفاظ على النظام وبقائه.
من هنا بدأت إسبانيا رحلة نجاح شملت عقد أول انتخابات يفوز فيها حزب معارض في 1982، عندما أصبح فيليبي جونثالث رئيسا للوزراء وهو في الأربعين من عمره، وانضمام إسبانيا للاتحاد الأوروبي عام 1986، الذي ضاعف من قدرتها على تثبيت نظامها الديمقراطي، وزاد من قوة أدائها الاقتصادي، حتى أصبح اقتصادها الرابع عشر على العالم فى بداية الألفية الجديدة، رغم ما واجهته مؤخرا من أزمات، وارتفع متوسط الدخل فيها عن المتوسط في الاتحاد الأوروبي، وتمكنت من القضاء على إرهاب حركة إيتا الباسكية الإرهابية الانفصالية، وأزالت الكثير من الآثار الاجتماعية التي كانت قد خلفتها الحرب الأهلية. ورغم أن الأعوام الأخيرة شهدت اضطرابا في مسيرة إسبانيا، إلا أن ما تم بناؤه فى تلك السنوات الحاسمة هو الذي يمكنها اليوم من التعامل مع الأزمات التي تواجهها سواء على صعيد الاقتصاد، أو التحدي الانفصالي، أو المشكلات التي تعرضت لها العائلة المالكة.
ملاحظات ختامية:
من أهم الملاحظات على تجربة التحول فى إسبانيا هى أنها كانت لها قيادة، سعت لصياغة إطار يستوعب جوهر تطلعات الأطراف بكل ما لديها من رؤى ومصالح متباينة بل ومتناقضة فى بعض الأحيان، ولم تترك الأمر للتفاعلات التلقائية العشوائية. كما أنها عملت على إقناع بقايا نظام فرانكو بأن مصلحتها تكمن في التفاعل إيجابيا مع الواقع الجديد. ورغم اتفاق المؤرخين على أن ما تم فى تلك السنوات الحاسمة كان مخاطرة كبرى من جانب الملك، إلا أنهم يجمعون أيضا على أنها كانت مخاطرة محسوبة، استشرفت بوعي التطورات التي يشهدها المجتمع، وأدركت أن التحدي هو الانطلاق نحو المستقبل، وليس محاولة استبقاء الماضى أو مقاومة التغيير.
وقد كان من عوامل النجاح الرئيسية استطاعة الملك، من خلال بناء الثقة مع مختلف الأطراف، وبتفاعله الشخصي والإنساني معهم، مدعوما ببراجماتية واعتدال رئيس الحكومة، جذب أوسع نطاق من الطيف السياسي والاجتماعي للمشاركة في العملية السياسية، وخلق مناخ من التعاون بل والألفة فيما بينهم (الأمر الذي كان بلا سابقة في تاريخ إسبانيا الذي سادته الانقسامات والعداوات العميقة)، وهو ما أدى إلى حصر وعزل القوى المناوئة، والتي اقتصرت على حركة إيتا، في مواجهة صف وطني موحد. بل إن صمود الملك فى مواجهة الضغوط الأمريكية لمنعه من منح الحزب الشيوعي الشرعية، لعب دورا حاسما في أن يُعلي الحزب الاعتبارات الوطنية في مواجهة أي ضغوط سوفيتية آنذاك.
كما كان من أهم أسباب نجاح تجربة إسبانيا هو أن الأطراف السياسية اتجهت -مع تعمق الثقة فيما بينها- نحو التعامل الناضج مع حالة توازن القوى فى المجتمع، على أساس اقتناع كل طرف بأنه قد يمتلك من القوة ما يسمح له بحرمان الأطراف الأخرى من تحقيق أهدافها، لكن قوته لا تكفي وحدها لتمكينه من تحقيق أهدافه هو كاملة، وأنه لكي يتمكن من تحقيق قدر معقول من المكاسب، عليه أن يقبل بتبادل التنازلات مع الآخرين، والوصول إلى صيغ وسطية أو خلاقة إزاء نقاط الخلاف المستعصية.
ويذكر هنا أن القيادة الإسبانية أحسنت قراءة الظروف الخارجية والتعامل معها بشكل يخدم الهدف الذي اختطته لنفسها، وذلك بحسن استثمار العوامل المساندة، وبوجه خاص المجموعة الأوروبية (آنذاك)، التي اعتبرت أنها لها مصلحة استراتيجية فى ثبات الديموقراطية فى إسبانيا وفى رخائها، ونجاحها في تحييد العوامل المعاكسة، خاصة القلق الأمريكى من تداعيات الديموقراطية على التزام إسبانيا بحلف الأطلنطى، أو ما قد يمثله اضطراب أوضاعها من إغراء للاتحاد السوفيتى لاستغالها فى هز استقرار عضو حيوي في الحلف المعادي له.
ولا شك أن ما حققته إسبانيا -بقواها المختلفة- من خطوات فى تلك السنوات المصيرية لاقى احتراما وتأييدا عالميا متزايدا، وحظي بحفاوة كبيرة من الإعلام والمجتمع المدنى والباحثين، مما دعم الروح المعنوية للإسبان، وحقق للبلاد سمعة إيجابية عالميا ترجمت إلى مكاسب اقتصادية، عززت بدورها قدرة البلاد على اجتياز أزماتها وتحقيق المزيد من الإنجاز.
إلا أن وضوح الرؤية الذي حكم المسار، والنجاح الذي تحقق، لا يعني أن المسيرة كانت سهلة والطريق ممهدا، حيث إن عملية التحول كانت فى الحقيقة عملية معقدة ومضطربة، وشهدت العديد من لحظات الانكسار والإخفاق قبل أن تثبت أقدامها، الذي يؤرخ له بفوز الحزب الاشتراكى المعارض فى انتخابات عام 1982 وتوليه السلطة، وتطلبت جهدا كبيرا وإصرارا حديديا على النجاح، وقدرة على امتصاص الصدمات، ومرونة تكتيكية كبيرة فى التعامل مع التحديات السياسية للحفاظ على المسار الاستراتيجي الذي تم وضعه في البداية، وجعل من التجربة مرشدا لدراسات التحول الديمقراطي، وتجاربه العملية في الكثير من دول العالم حتى اليوم.