تصاعد الجدل حول الفيلم السينمائي “أميرة” حتى تحول إلى أزمة واضطر مخرج الفيلم إلى إعلان وقف عرضه في حين أعلنت الجهات الرسمية في اﻷردن عن سحب مشاركتها بالفيلم ممثلا للأردن بمسابقة أفضل فيلم أجنبي في منافسات اﻷوسكار اﻷمريكية. “أميرة” فيلم من إنتاج مصري-أردني مشترك، أخرجه المخرج المصري محمد دياب، وقامت ببطولته الأردنية “صبا مبارك” إلى جانب ممثلين فلسطينيين وأردنيين آخرين. يتناول الفيلم واحدة من صور نضال اﻷسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني وأُسرهم في مواجهة حرمانهم من الحق في اﻹنجاب، وفي إطار أوسع هو ما يمكن تسميته بالمقاومة الديموجرافية، وهي إحدى صور تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه وسعيه لاستمراريته كشعب من خلال أجيال جديدة، وتهديد الوجود الصهيوني غير المشروع على هذه اﻷرض. تعتمد هذه اﻵلية على تهريب نطف (مني) اﻷسرى، لتتمكن زوجاتهم من إجراء عمليات تلقيح صناعي تثمر أطفالا، هم استدامة بأحد الصور لوجود آبائهم، رغم أنف الاحتلال وأسوار سجونه، وفي تحد مذل لهذا المحتل المعتَد بقدراته اﻷمنية وتفوقه التقني.
ما أثار الجدل حول الفيلم هو المدخل الذي اختاره مخرج الفيلم، وهو أيضا أحد ثلاثة جميعهم أشقاء شاركوا في كتابة قصته، أو الفكرة الخيالية التي جعل منها حبكة فيلمه، وهو تخيل ألا تكون النطفة المهربة هي للأب اﻷسير، بل أن تعود في الحقيقة إلى ضابط صهيوني، فتكون الابنة التي أنجبتها اﻷم التي لقحت نفسها بالنطفة المهربة، في الحقيقة إسرائيلية يهودية، لا فلسطينية عربية. اهتمام صناع الفيلم كان موجها، كما يبدو، وكما عبروا من خلال بيان رسمي لهم، إلى مفهوم الهوية، والمشاعر المعقدة لبطلة الفيلم تجاه هويتها، ولكن ما يبدو أنهم قد أغفلوه هو مشاعر ذوي اﻷسرى الفلسطينيين أولا، ومشاعر المؤمنين بالقضية وبنضال الشعب الفلسطيني، ومن يضعونهما في مقام من القدسية يتطلب حساسية معينة في التناول. ومن ثم فقد تصاعدت ردود الفعل منتجة قدرا من الغضب، المبرر، ومنتجة أيضا مطالبات، لا أراها مبررة أو مقبولة، بوقف عرض الفيلم.
لمشاعر البشر مكانة خاصة. نحن نتوقع من اﻵخرين أن يحترموا مشاعرنا، وكذلك يتوقع اﻵخرون منا أن نفعل المثل. هذه واحدة من القواعد غير المكتوبة للتعايش الودي بين البشر. في المقابل توضع القوانين والقواعد الموضوعية المكتوبة بغرض الحفاظ على التعايش (السلمي) بين البشر. وفي حين تتسع القواعد غير المكتوبة باتساع ما قد تتعلق به مشاعر البشر المختلفة والمتباينة في حدتها وأولويتها بالنسبة لكل واحد منهم، فالقواعد الموضوعية المكتوبة وبصفة خاصة القوانين، تتعلق بنطاق محدود وضروري، ويمكن للجميع التوافق على أولويته، وبالتالي فهي بصفة عامة تتعلق بتوفير الحماية من صور اﻷذى التي لا يوجد كثير من الخلاف حولها، فلا أحد على سبيل المثال سينكر أن القتل هو صورة من صور اﻷذى التي ينبغي توفير الحماية للناس من التعرض لها، يلحق بذلك كافة صور اﻹيذاء البدني. كذلك يتفق غالبية الناس في توقع أن يحميهم المجتمع من تعرض حقوقهم اﻷساسية للانتهاك، أو تعرضهم للمعاملة الظالمة، مثل الفصل التعسفي من وظائفهم، والطرد غير المبرر من أماكن سكنهم، وكذلك يتوقع الناس حدا أدنى من حماية مصالحهم المشروعة. ما يربط هذه اﻷمور هو أنها ضرورية حتى يستشعر الناس اﻷمن واﻷمان في معيشتهم اليومية، وكذلك يربط بينها أنها تمر من خلال المجتمع ودولته، بمعنى أننا نتوقع من الدولة كممثلة للمجتمع أن توفر لنا هذا النوع من الحماية، في مقابل كوننا مواطنين ملتزمين باحترام قوانين الدولة ونؤدي واجباتنا المختلفة تجاهها. وبعبارة أخرى، فهذه اﻷمور ضرورية لاستمرار وجود الدولة بقدر ما إن هذا الاستمرار يعتمد على ولاء مواطنيها، وبقدر اعتماد ولاء المواطنين على استشعارهم لحماية الدولة لحقوقهم ومصالحهم.
يختلف التعامل المتوقع مع أي من هذين النوعين من القواعد، فيحق لنا توقع فرض قواعد التعايش السلمي على الجميع، كما يمكننا المطالبة بعقابهم في حال انتهاكها، فهي تنتمي إلى التزاماتنا كأفراد تجاه المجتمع، وكمواطنين تجاه الدولة، وبالتالي تساوينا في الالتزام بها أمر ضروري. في المقابل لا يجوز للمجتمع، من خلال دولته، أن يفرض قواعد التعايش الودي على أفراده، أو أن يعاقبهم على عدم الالتزام بها. بصفة خاصة ليس من مهام المجتمع أو دولته إلزام الناس بمراعاة مشاعر بعضهم البعض، ومن ثم يترك المجتمع للأفراد والجماعات المختلفة التي يشكلونها وينتمون إليها بشكل طوعي وحر، أن يقرروا سبل الاستجابة المناسبة للحالات التي يتخطى فيها آخرون حدود احترام مشاعرهم. هذه السبل ينبغي كغيرها من الممارسات أن تلتزم بدورها بالقوانين والقواعد الموضوعية، وينبغي أيضا ألا تتضمن السعي لاستعداء المجتمع ككل أو دولته على من لم يحترم مشاعرنا، وتحديدا لا ينبغي أن تتضمن السعي لتوقيع أي شكل من أشكال العقوبات عليه، ﻷن ذلك سيمثل إساءة لاستخدام القوانين والقواعد الموضوعية في غير مكانها الصحيح.
يقع الخلط معظم الوقت عندما يتعلق اﻷمر بالمقدسات بأنواعها، سواء كانت دينية أو وطنية، ولا توجد عقيدة أو وطن بلا مقدسات، وهي تمتد من العقيدة نفسها المقدسة في ذاتها عند أتباعها لتشمل أنبيائها وكتبها المقدسة ورموزها المادية والمعنوية إلى آخر السلسلة الطويلة التي يختلف أتباع كل عقيدة في تحديدها وفي إيلاء القدر نفسه من القداسة لعناصرها. اﻷمثلة التاريخية، ومن الحاضر، لاختلاف أتباع العقيدة الواحدة على مقدساتها لا حصر لها، ولكن أحد اﻷمثلة القريبة من واقعنا المعاش في مصر هو تقديس كثير من المسلمين، وبصفة خاصة في مصر، لأضرحة أهل بيت النبي واﻷولياء الصالحين، ولمناسبات ميلادهم، ويترتب على ذلك الاهتمام بزيارة هذه اﻷضرحة ومظاهر التبرك بها، وكذلك الاحتفال بالموالد وإحيائها، في المقابل ثمة كتلة لا يستهان بها من المسلمين، في مصر وفي غيرها، لا يعترفون بقداسة أي ضريح، بما في ذلك موضع قبر النبي نفسه، ويرون أن إبراز اﻷضرحة بالبناء عليها، وزيارتها والتبرك بها من مظاهر الشرك غير المقبولة بل والمحرمة. هذا المثال بالمناسبة يشبهه أمثلة تاريخية لاختلاف أبناء العقيدة الواحدة بل والمذهب الواحد حول المقدسات إلى حد النفي التام لطرف لقداسة شيء في مقابل التمسك المتطرف للطرف اﻵخر بهذه القداسة، ففي إطار مذهب الكنيسة الشرقية البيزنطية ثار خلاف تحول إلى دموي لبعض الوقت حول قداسة اﻷيقونات، أي الصور التي تمثل المسيح والعذراء مريم والقديسين.
لا يدرك كثيرون أن مشاعرنا تجاه مفاهيم أو أفكار أو قضايا أو أشياء مادية، هي ما يجعلها مقدسة، وهو يجعلها مقدسة بالنسبة لنا ولمن يشاركوننا نفس المشاعر. القداسة ليست صفة مطلقة تفرض نفسها بنفسها على الجميع. لا شيء مقدس في ذاته وبشكل مستقل عن شعور جماعة من البشر بقدسيته. ولكننا نخلط في أحيان كثيرة بين صفات أخرى موضوعية للمفاهيم واﻷفكار والقضايا، وبين صفة القداسة الذاتية. على وجه التحديد قد تتصف قضية بكونها عادلة. هذه صفة موضوعية تتعلق بحقائق تاريخية وواقع على اﻷرض، وتتعلق قبل أي شيء آخر بحقوق توافق البشر على الاعتراف بها، وتوافقوا على تنظيم حمايتها من خلال قوانين وقواعد مرعية. لذلك يمكننا توقع أن يعترف اﻵخرون بعدالة قضية ما قد توافرت لها الشروط الموضوعية للعدالة. ولكن هذا لا يمتد إلى مشاعر القداسة التي قد نستشعرها تجاه هذه القضية، والتي قد يكون لها مصادر وشروط تختلف فيما بيننا، ولا تتوفر لمن سوانا. ومن ثم لا يمكننا أن نتوقع من الجميع سلوكا مطابقا لسلوكنا إذا ما كان ناشئا عن الشعور بقدسية ما للقضية، فحتى إن كان يشاركنا الشعور بقدسيتها، فثمة دائما احتمال ﻷن نختلف معه بخصوص الطريقة التي قد يعبر بها عن هذا الشعور. وقد يبرر الاختلاف في هذه الحالة أن نتهمه بأنه لا يحمل للقضية مشاعر التقديس التي نتوقعها منه، ولكن هذا لا يشبه في شيء اتهام أحد بخرق القانون، أو ارتكاب شكل من أشكال التعدي على اﻵخرين، ففي النهاية ليست مشاعر القداسة إلزامية.
في حالة فيلم “أميرة”، ربما أخفق صناعه في تقدير ما قد تسببه الفكرة المحورية له من أذى لمشاعر الكثيرين، وربما إذا ما أدركوا ذلك لوجدوا أنه يفوق في أهميته، حتى بالنسبة لهم، ما للفكرة التي يرغبون في طرحها من أهمية. في نهاية المطاف، ليست أهمية الأفكار مطلقة، حتى عند أصحابها. أؤكد على هذا ﻷن البعض يخلط بين الدفاع بقوة عن حرية التعبير وحرية الفكر واﻹبداع، وبين إسباغ قدسية مطلقة على ما تنتجه ممارسة هذه الحريات. ليس لمحتوى تعبيرنا وفكرنا وابداعنا أية قداسة مطلقة، بل كغيره، تتعلق قدسيته عند البعض بمشاعرهم تجاهه، ويمكننا أن نتخيل أن يكون للفن واﻹبداع قدسيتهما عند الفنانين والمبدعين، وليس ﻷحد أن يجادل هؤلاء في مشاعرهم. ولكن بالنسبة للمدافعين عن حقوق اﻹنسان يتعلق اﻷمر دائما بالدفاع عن الحق بغض النظر عن محتوى ممارسة بعينها لها. ويبدو في كثير من اﻷحيان أننا في دفاعنا عن الحق في حرية التعبير بصفة خاصة لا نقيم وزنا لمشاعر الناس، خاصة عندما يعتقدون أن مقدساتهم قد أسيء إليها، ولكن الحقيقة أننا معنيون بالحفاظ على الحدود بين المجالين الخاص والعام، فبينما توجد المشاعر في المجال الخاص وامتداداته، فممارسة حرية التعبير تتم في المجال العام، وبينما ينبغي حماية المجال الخاص من تغول المجال العام عليه، كما هو الحال عندما نرفض سن قوانين تتدخل في الخيارات الشخصية للأفراد، أو في الممارسات الجماعية للشعائر الدينية التي هي في الأصل خيارات شخصية. ينبغي أيضا حماية المجال العام من تغول المجال الخاص عليه، خاصة عندما تختفي الحدود بينهما، ويحدث هذا بصفة خاصة عندما تبدو الخيارات الشخصية وكأنها مرتبطة بهوية أوسع، وتحديدا بالهوية الوطنية، فتتحول تبعات هذه الخيارات إلى إلزامات عامة تبرر المطالبة بعقاب من يخالفها بواسطة القوانين.
يستخدم كثيرون مصطلح الثوابت الوطنية في إشارة إلى قضايا لها قيمة تاريخية في تشكيل المشاعر الوطنية في فترة إعادة إنشاء الدولة القومية الحديثة في مصر في منتصف القرن الماضي. القضية الفلسطينية هي إحدى هذه الثوابت. ولكن قدر اﻹجماع الوطني على عدالة القضية الفلسطينية والموقف اﻹنساني، والوطني أيضا، من دعم الشعب الفلسطيني، قد أنتج مع الوقت خلطا بين ما هو عام وما هو خاص بطبيعته بخصوص مواقفنا ومشاعرنا تجاه القضية، وتجاه نضال الشعب الفلسطيني وآليات هذا النضال. أو بعبارة أخرى يغفل أغلبنا حقيقة أن المشاعر الشخصية بطبيعتها، والتي تنتج سلوكيات هي طوعية بطبيعتها أيضا، لا يمكن أن تتحول إلى إلزامات عامة تنتج سلوكيات قسرية، مهما كان حجم اﻹجماع عليها. وبالتالي عندما نواجه موقفا نرى فيه إساءة إلى القضية أو إلى نضال الشعب الفلسطيني، يندفع كثيرون في مشاعر الغضب (المبرر) إلى حدود للسلوك والتوقعات (غير المبررة). وما ينسونه هو أن ما لا يمكننا إلزام اﻵخرين به لا يحق لنا عقابهم على مخالفته. فإذا لم يكن باﻹمكان إلزام أحد باستشعار حساسية خاصة تجاه أحد اﻷمور ومراعاة مشاعر الناس بخصوصه، فلا يمكن معاقبتهم إن لم يفعلوا ذلك. موقع حرية التعبير أو اﻹبداع من هذه الفكرة ثانوي في الواقع، فقد تصادف فقط أن الفعل الذي انطوى على عدم مراعاة لمشاعر الناس هو ممارسة لحرية اﻹبداع، وكان باﻹمكان أن يكون هذا الفعل ممارسة من نوع مختلف، ولكن تبقى القاعدة هي نفسها. لا توجد هنا مفاضلة بين الحق في حرية التعبير وبين القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني، فلا تعارض أو تناقض أو حتى تقاطع بين اﻷمرين.
يسقط كثير من المنتمين إلى التيارات السياسية المدنية العلمانية في فخ اتخاذ مواقف لا تختلف في حقيقتها عن مواقف يرفضونها للإسلاميين. ولكن ما يختلفون فيه عن هؤلاء هو أنهم ينطلقون عادة من مبادئ موضوعية، ليست مبنية على إيمان غيبي، ويظنون بذلك أن كل ما يترتب على هذه البداية يظل موضوعيا بدوره، ومن ثم فهو ينتمي إلى المجال العام. ولكن هذا غير صحيح. مرة أخرى عدالة قضية تعتمد على شروط موضوعية، ومن ثم فموقفنا العام من القضية هو أيضا موقف موضوعي ليس بالضرورة ناتج عن مشاعر شخصية، وبصفة خاصة الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال هو موقف موضوعي، ولذلك يقره ويدعمه القانون الدولي نفسه. ولكن المواقف التفصيلية من آليات نضال الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال تخضع ﻹمكان الاختلاف حولها دون الاختلاف على مبدأ الحق في المقاومة نفسه. واﻷهم في السياق الحالي هو أن مراعاة مشاعر الناس المتعلقة بهذه اﻵليات، برغم أنه أمر مستحب ويجوز لنا حث اﻵخرين على الالتزام به طوعا، إلا أنه ليس ملزما بذاته ولا يجوز لنا معاقبة اﻵخرين بأي طريقة إذا لم يلتزموا به عمدا أو نتيجة سوء تقدير، والمؤكد أنه لا يجوز لنا معاقبتهم بالمطالبة بانتهاك حقهم في حرية التعبير من خلال حجب عمل فني.
في النهاية، لا فائدة حقيقية يمكن أن تعود على القضية الفلسطينية أو نضالات الشعب الفلسطيني نتيجة لمنع عرض فيلم سينمائي. أما تصورات البعض عن أن فكرة الفيلم تؤدي إلى (التشكيك) في موثوقية أو فعالية إحدى آليات المقاومة، فهي في هذه الحالة تحديدا غير مبررة ويناقضها الواقع، فكما كرر كثيرون، أثبتت اختبارات الحامض النووي ﻷطفال النطف، أنهم جميعا أبناء آبائهم اﻷسرى بالسجون اﻹسرائيلية. اﻷهم أن أية ممارسة عملية في الواقع قابلة لمناقشة فعاليتها ويظل الاختبار العملي هو الفيصل في حسم هذه المناقشة، دون أن تكون المناقشة في حد ذاتها مرفوضة من حيث المبدأ. وأخيرا يظل تقاطع فكرة الفيلم مع فعالية آلية تهريب نطف الأسرى ثانويا، وهو ضروري فقط لتطوير حبكة قصته، وتصوير الفيلم وكأنه قد صنع في مجمله للتشكيك في هذه اﻵلية هي مبالغة غير مبررة، ويظل ما سوى ذلك من نقد يمكن توجيهه إلى الفيلم بكل تفاصيله أمرا مشروعا وطبيعيا، فالنقد هو أداتنا الطبيعية لتناول أفكار اﻵخرين التي نختلف معها، دون محاولة قتل هذه اﻷفكار بحجبها ومنعها وعقاب منتجيها.