(لماذا؟)
في المقابل السابق تعرفنا على ظروف تنصيب خديو مصر الأخير عباس حلمي الثاني، وبخاصة ارتباط حياته وفترة حكمه بما اتفقنا على تسميته “مفاصل الزمن” أو مراحل التحولات، وبالتالي لم ولن نركز في هذه السلسلة من المقالات على سرد الوقائع التاريخية (المتوفرة بغزارة في الكتب وعلى مواقع الإنترنت)، لكننا سنجتهد في تجريد سيرة الخديو وزمنه من النظر للأحداث والشخصيات في ظاهرها، أو في “تعينها” كما يقول أهل الفلسفة، لأننا نأمل في التوصل إلى القوانين الحاكمة والأسباب الكامنة التي تجبر مصر على الدوران الاضطراي في نفس المصائر المتكررة بين “النهضة المدعاة” و”الفشل المتحقق”، وكأن الهزائم وخيبات الأمل قدر محتوم لا يمكن لبلادنا الفكاك منه!
هذا التجريد يعني أن القارئ شريك أساسي في إعطاء هذه المقالات قيمة مستقبلية أكبر من حيلة استدعاء تاريخ قديم، كل قارئ يستطيع بقراءته الخاصة أن يدرك المشتركات والتشابهات المقيتة المكررة، وأن يرى الواقع والمستقبل في مقالات ترتدي قناع الماضي، فقط علينا أن نهمل الأسماء والتواريخ المحددة، ونسأل عن طبيعة العلاقة بين الحاكم (أيا كان اسمه) والمحكومين، كذلك عن علاقة السلطات الداخلية بالسلطات الخارجية، وعلينا أيضا أن نتعرف على تصورات الحاكم الذهنية لنفسه ودوره، وأن ندرك تأثير هذه التصورات على إدارة الحاكم للثروة أو رؤيته للثورة، فالحكام على اختلافهم يتحدثون دائما عن نهضة ما، ويفاخرون (جميعهم) بإنجازات ومشروعات عظيمة، ويبذلون الكثير من الوقت والإعلام والتنقلات لافتتاح مشروعاتهم “الكبرى”، ثم لا تتحقق النهضة، وإنما تستمر البلاد في مزيد من السقوط: تقل المكانة، وتضيع الهيبة، ويتضخم الفقر في بيوت الفقراء، بينما الأضواء تركز على صور الطغاة والفاسدين في الصفحات المدفوعة، وتوحي للمخدوعين بأن قصور الحكام والأثرياء هي شواهد النهضة الموعودة.
هكذا تتواصل المأساة العبثية التي يصنعها أهل الحكم، ثم يتهمون القدر، أو الثورة، أو الفقراء أنفسهم بأنهم سبب الإخفاق، وليس سياساتهم الأنانية الحمقاء وجهلم بمسؤولياتهم وبتطورات الزمن من حولهم، لأن عيونهم لا ترى أبعد من الكبسولة التي يعيشون فيها، وعقولهم لا تعترف بحقيقة المشاكل في قاع المجتمع، لأنها مشغولة بالحديث عن عظمة الإنجازات المتوهمة في دائرة السلطة، و معظمها “طموحات شخصية” أو مشروعات فردية تشبه رش العطر على “مقلب نفايات” أو وضع إصيص من الزهور في خرابة، لذلك تفشل دائما عملية نقل المجتمع من التخلف إلى التقدم، وأكتفي الآن بهذا القدر من الحديث في مظهر السياسة وقشورها الخارجية، لنعبر معا إلى ما وراء السياسة.. إلى قلب البندق.. إلى جوهر الحكايات والأحداث والأشخاص، وأذكركم بأن عليّ الحكي، وعليكم الاستخلاص.
(11)
بتعبيرات رواية “العطر” كان عباس الثاني مزيجا من عطر جده إسماعيل (الطموح.. المسرف.. عاشق الأبهة والنساء.. أوروبي الهوى) وعطر والده توفيق (الضعيف.. المهادن.. الأُسَري.. تابع الإنجليز)
بتعبير أهل المنطق: كان إسماعيل هو السبب، وتوفيق هو النتيجة، بينما عباس هو المحاولة التلفيقية للمساواة بينهما، سياسات إسماعيل مهدت للاحتلال باقتراضه من الأجانب وتوفيق راهن على الاحتلال ضد الثورة، وعباس عاش تحت تأثير وضغوط النقيضين (الإنجليز وعرابي)، فأراد الانتقام من الاثنين كأنه يردد القول الشهير: اللي حصل ده مش هيتكرر تاني، وبالطبع لم يكن يقصد ثورة يناير، بل يقصد خلع الإنجليز لجده، وثورة عرابي ضد والده.
في مذكراته خصص عباس الثاني فصلا لكل من الجد والأب، ميز بينهما في الصفات، لكنه اجتمع على حبهما والإشادة بهما، تسامح علانية مع إسراف وأنانية جده، والتمس العذر لوالده، معتبرا أن ضعفه طيبة، وأن تعاونه مع الاحتلال “ضرورة”، وحكمة لتجنيب مصر ويلات الحرب، لكن عباس كان يشعر بمهانة في أعماق نفسه، بسبب نفي الجد وخنوع الأب، لذلك تعهد صراحة بأنه سيأخذ ثأر عائلته من الإنجليز، وبخاصة السير إيفلن بارينج المعروف بلقب “لورد كرومر”.
وكان مما صرح به عباس مشيدا بوالده، أنه تزوج بامرأة واحدة فقط طول عمره، على عكس كل الحكام السابقين، وأنه أول حاكم في تاريخ مصر يفعل ذلك، فقد تخلى عن الجواري والأغوات، خاصة وأن إسماعيل باشا اصطحب معه إلى المنفى جيشا من الجواري والغلمان، وقرر توفيق تخليص القصر من البقية، وفي بداية تنصيبه سعى عباس لتقليد والده وليس جده، والتزم بزواج عائلي مستقر من دون تعدد ولا نزوات نسائية، واعتبر (كما يفعل محمد بن سلمان الآن) أن الزواج الأحادي خطوة في طريق التحديث على النموذج الأوروبي، لكن محصلة السياسة والحياة الخاصة للخديو الأخير لم تمض كما تعهد وخطط وعزم، فهو لم يحقق مشروعه الخاص في الاستقلال السياسي ولا في الزواج الأحادي، يعني لم يتجنب مصير الجد ولا الأب، بل جمع النقيضين في حياة واحدة، وقد ذكرنا في المقال السابق أن عباس تزوج فور تنصيبه من إقبال هانم وأنجب أربعة أطفال من دون نزوات نسائية ولا جواري، لكنه في “هرشة السنة السابعة” سلك طريق جده إسماعيل وبدأ في العلاقات النسائية المثيرة للجدل، ومن حسن حظنا أننا عثرنا على تفاصيل ووثائق تقدم لنا الكثير من تفاصيل ذلك الجدل المرتبط بغراميات الخديو الأخير، والجيد في المعلومات أنها ليست نميمة عن حياة الحاكم الشخصية، بل معلومات كاشفة تفتح أمامنا حزمة من القضايا السياسية والإعلامية والأخلاقية والاقتصادية أيضا، كما تكشف لنا الكثير مما يخفى علينا في قصور الحكم والحاشية
(12)
وعلى سبيل التذكير بالقصة نبدأ من أول نقطة:
في مطلع القرن الماضي وبعد 7 سنوات من زواجه التقليدي، التقى الخديو عباس في فندق جراند الباريسي بفتاة أوروبية كانت شقيقة لزميله في أكاديمية تريزيانوم العسكرية بفيينا، كانت تحمل في يدها باقات من الزهور وترتدي قبعة كبيرة تخفي معظم وجهها، لكنه عرفها على الفور واتجه ناحيتها بوقار، ولما رفعت الفتاة رأسها فوجئت بالشاب الشرقي أمامها، سقطت الزهور من يدها وهي تحاول مصافحته، كان الخديو قد عرف بوفاة شقيقها الشاب قبل فترة قصيرة، فمعظم حاشية الخديوي من الأجانب وزملاء الدراسة في تريزيانوم، لذلك لم يسألها عن جوزيف حتى لا يفتح باب الأحزان، لكنه عاملها بلطف وكرم ودعاها لزيارة مصر، ولما جاءت “ماي” إلى بلد النيل لم تخرج منه أبدا، فالتي خرجت بعد طلاقها في عام 1913 لم تكن الكونتيسة الأوروبية “ماريان توروك فون سندرو”، بل الأميرة “جويدان هانم” زوجة خديو مصر، حسب الاسم الذي اختارته واحتفظت به حتى وفاتها، وتم تسجيله في “الدليل الاجتماعي للنبلاء” المعرف باسم “دليل جوتيه” نسبة للكاتب الألماني الشهير فولفانج جوته صاحب رواية “فاوست”، وكان الدليل يصدر بتحديث سنوي للأسماء خلال في الفترة بين عامي 1763 و1944م.
كانت ماي قد اعتنقت الإسلام تمهيدا للزواج السري في الفترة الغامضة من زيارتها، وغيرت اسمها إلى “زبيدة بنت عبد الله”، تجنبا لأي حرج تتسبب فيه علاقة الخديوي بامرأة أجنبية غير مسلمة، فقد سأل السلطان العثماني عن وضعية الكونتيسة التي تسافر مع الأمير في رحلاته الخارجية، وكان الرد أنها محظية وليست زوجة، ولم تكن “ماي” تشعر بالراحة والحرية، بل تشعر أن كينونتها كامرأة غربية حرة صارت تحت قيود خانقة (تناسب عصر الحريم الحريم) وتقاليد شرقية لا تناسب أفكارها المنطلقة، فعندما يستسفر بعض الشيوخ عن علاقتها بالخديو تكون الإجابة إنها زوجة شرعية (لكن غير رسمية)، وعندما تسافر للخارج لم يكن مسموحا لها بركوب اليخت الملكي (المحروسة)، فتضطر للتنكر في ملابس الرجال، أو ملابس ممرضة، وزادت عليها الأعباء النفسية للعلاقة الناقصة التي استمرت لأكثر من 8 سنوات، حتى تم توثيق الزواج الرسمي في الثامن والعشرين من فبراير عام 1910
لكن لماذا تأخر الزواج الرسمي كل هذه السنوات، برغم الحب والارتباط واعتناقها للإسلام، وماهي الأسباب والدوافع التي شجعت الخديو العاشق على تجديد وإعلان الزواج؟
الإجابة تنقلنا إلى القضايا التي أشرنا إليها ونبدأها بالعوامل التي دفعت الخديوي لتوثيق وإعلان زواجه الثاني، وأولها ملاحظات الباب العالي، والشائعات التي استخدمها الإنجليز للضغط على عباس، والنميمة في أوساط الطبقة الأرستقراطية والجاليات الأجنبية، وأخيرا تذمر “ماي” وشعورها بالغضب والتمرد على وضعها المنعزل في سراي مسطرد
لكن كيف نتحقق من هذه العوامل التي لم تتضمنها أي وثيقة تاريخية رسمية؟
هنا، تأتي أهم نقطة في تحرير التاريخ من قبضة السلطة التي تتحكم في كتابته على هواها، ولهذا قصة أحب أن أحكيها:
في واحد من لقاءاتي الشخصية مع الأستاذ حسنين هيكل أبدى إعجابه بسلسلة مقالات كنت أنشرها في صحيفة “التحرير” عن علاقة المثقف بالسلطة، من خلال استرجاع علاقة شيوخ الأزهر بمثلث السلطات في مصر أثناء الحملة الفرنسية: الوالي العثماني في القلعة، وقادة المماليك في قصور الأزبكية، ونابليون في قصر الجيزة. ولما سألني عن بعض المعلومات غير الواردة في تاريخنا، قلت له إنني أستعين ببعض المذكرات الفرنسية لضباط وجنود من الحملة، وكذك ببعض الرسائل الشخصية من الجنود إلى أهاليهم ومصادر معلومات غير تقليدية عن تلك الفترة.
رفع الأستاذ هيكل حاجبيه، وهو يقول: عظيم.. أنت فكرتني بحاجة مهمة جدًا، اتصل بي شخص (لن أذكر اسم الشخص) يطلب التوسط عند إبراهيم نافع (رئيس تحرير الأهرام آنذاك) لتحمل المؤسسة نفقات سفره إلى فرنسا للبحث عن وثائق الحملة الفرنسية، ولم تكن لدي رغبة في الوساطة، والشخص يكرر السؤال عن طلبه، فقلت له: سفريتك تتكلف كام؟
قال: كذا
قلت له: هنخليهم 30 ألف دولار وإذا وجدت الوثائق هتصور لي نسخة منها.
سافر الرجل وقضى عدة أسابيع يبحث في المكتبات والأرشيف الوطني دون أن يصل إلى شيء، وقرر العودة بخيبة أمل وحرج كبير، وأثناء وجوده في السفارة المصرية قبل العودة بيوم واحد، التقى هناك بباحث فرنسي ودار بينهما حوار عن الموضوع، فقال له الباحث: أنت تبحث في المكان الخطأ، لا تبحث في باريس، اذهب إلى ميناء طولون وبمساعدة السفارة يمكنك دخول مخازن البحرية، فعندما عادت المراكب المتبقية من الأسطول مع المراكب الأجنبية التي أجلت القوات من مصر، كانت فرنسا كلها في مرحلة اضطراب وتم تخزين كل متعلقات الحملة العائدة بشكل عشوائي ولم يلتفت إليها أحد.
سافر الباحث المصري، وتمكن من الحصول على تصريح بالبحث في المخازن، ومع أول ضربة “أجنة” في صندوق خشبي مكتوب عليه بضعة كلمات عن القاهرة، عثر على كنز من الوثائق، وتوالت الصناديق فاتصل الرجل بالأستاذ هيكل فرحا بانتصاره، هنأه هيكل وطلب منه تصوير كل الوثائق مهما تكلف ذلك (اعتبر الميزانية مفتوحة).
حكى هيكل بسعادة وأريحية عن مضمون بعض الوثائق التي تصفحها، وبلغة الشباب على مقهى شعبي، قال: تصدق أننى اندهشت من رسالة جندي فرنسي إلى صديق له كتب فيها أن أحد الشيوخ كان يغازله ويراوده كل يوم على باب الأزهر، أثناء وجوده مع قوة الحراسة لحصار الجامع بعد الثورة الأولى.
يضحك هيكل ويقول على غير عادته المحافظة في الحديث: الواد خواجة أشقر بشعر دهبي وعيون زرقا، والشيخ عاوز … معاه.. تصور؟
بعد الحديث عن عدد من الوثائق ومناقشة قضية “التاريخ الناقص” طلبت نسخة من الوثائق، ولهذا قصة أخرى سنعود إليها في مكانها ووقتها المناسب، فالمقصود من هذه الحكاية الآن أن نهتم بالمصادر الشعبية للتاريخ ولا نتركه عبدا أجيرا يخدم الرؤية السلطوية التي لا تعترف بحقيقة ولا ناس، بل تكتفي بتلميع صورتها وتفخيم أسطورتها بالكذب والتلفيق، مما يخلق تناقضا وانقساما وأزمة ثقة مع تاريخنا
(13) نموذج تطبيقي للتاريخ الشعبي في السياسة:
قبل بضعة شهور من الزواج الرسمي لم يكن للكونتيسة وجود علني في الصحافة أو الحياة العامة، كانت تتحرك في حدود أفراد قلائل يحفظون السر، أو تتنكر في ملابس الخدم والموظفين لتقترب من زوجها في قصر الحكم، وكان الخديو مستمرا في الظهور بصورة المصلح الاجتماعي الذي يؤكد إخلاصه لفكرة الزواج بامرأة واحدة فقط، والعبور من عصر الجواري إلى عصر حرية المرأة.
وفي سبتمبر من عام 1909 قبل خمسة أشهر من توثيق الزواج بحضور المفتي العام لمصر نشرت صحيفة “ذا إيجيبشان جازيت” (كانت مسائية تصدر في الإسكندرية) مقالا عن الحياة العائلية للخديو بعنوان: “خديوي مصر يعارض تعدد الزوجات ويؤكد: زوجة واحدة تكفي”، مع إشارة إلى أن المقال من صحيفة أمريكية مسائية أيضًا هي “ذا ايفيننج ستار” (تغير اسمها بعد ذلك إلى واشنطن ستار)، لم يذكر المقال أي سيرة للكونتيسة، وركز على صفات “الحاكم التقي” الذي سار على نهج والده ضد تعدد الزوجات، متمسكا بضرورة التخلص من تعدد الزيجات لدى الأثرياء والقادرين لاستكمال القضاء على “عصر المحظيات”، وأشار المقال إلى “إقبال هانم” باعتبارها زوجة الخديو الوحيدة وأم أطفاله الستة، ونقتطف من المقال ما يوضح هدفه ورسالته في صناعة صورة “الحاكم الورع” حتى ولو بالأكاذيب: “بعد الظهيرة، يحرص حاكم مصر برغم أعباء المسؤولية على تناول الغذاء مع المرأة الوحيدة التي حافظ عليها كزوجة مسلمة ترعى أولاده الستة..”.
وفي نفس التوقيت كان هناك قاض إنجليزي اسمه “وليام جودينو هايتر” يعمل كمستشار لدى الحكومة المصرية ضمن أفراد “المراقبة المالية الثنائية” التي قررتها بريطانيا وفرنسا لضمان تسديد القروض التي عجز الخديو إسماعيل عن سدادها، وكان لهذا المستشار طفلة اسمها “بريسيلا” صارت فيما بعد كاتبة شهيرة تعتمد على السير الذاتية لعائلتها وعائلة زوجها، وفي واحد من هذه الكتب التسجيلية المكتوبة بخفة دم وأسلوب ساخر أحيانا نشرت رسالة من والدها في القاهرة إلى والدتها أليثيا يهمنا منها حديثه عن “فضيحة الخديوي والكونتيسة”، حيث يقول: “الخديوي لا يهتم كثيرا بمسؤوليات الحكم ويسافر معظم السنة إلى إسلامبول (القسطنطينية)، وتسافر معه زوجته الجديدة وهي كونتيسة سابقة”، برغم أنه يرفض الاعتراف بالزواج علنا، ويشترط عليها أن تشهر إسلامها أمام “المفتي” (يسميه القاضي) وتتعهد بالالتزام بالدين وحفظ القرآن وتعيش حياة طاهرة، لكن حتى الآن ينظر إليها العثمانيون في إسلامبول كمحظية ليس إلا.
وقد سمعت الخديوي مرة يقول إنه يتجنب ظهورها حتى لا تحدث فضيحة علنية.
ويضيف السير وليام في رسالته: إن هذا الخديو يدمر نفسه بسبب هذه المرأة التي جاءت من شوارع فيينا بعد أن تزوجت وهربت من زوجها بعد أن قابلت الخديو وتعلقت به كالوسواس، وبرغم أنه يعرف الكثير من الأشياء السيئة عنها، إلا أنه مغرم بها ولا يستطيع التحرر من سيطرتها عليه، خاصة وأنها تلاحقه في كل مكان، حتى أنها تتنكر في ملابس صبي وتأتي إلى قصر القبة وتتدخل في كل شيء تحت اسم “علي بك”..!
رسالة السير هايتر تعطي صورة عن “الضجيج المهموس” الذي ذاع في محيط القصر الحاكم وبيوت النخبة الأرستقراطية عن هذه العلاقة المثيرة للجدل، والأهم أنها فتحت لنا ثغرة في جدار الصمت والتواطؤ من جانب الصحافة الرسمية وتدوينات التاريخ السلطوي، حتى أن وثائق قنصلية المجر والنمسا تخلو من أي إشارة عن علاقة الخديو بالكونتيسة حتى بداية عام 1909، عندما تم اختيار الكونت “سيشيني لايوس”* كآخر قنصل عام للبعثة الدبلوماسية لإمبراطورية المجر والنمسا في القاهرة، لأن الإمبراطورية تم حلها وانفصلت المجر عن النمسا خلال الحرب العالمية الأولى (1914). ففي تقرير مطول كتبه لايوس عن الوضع في مصر ذكر أن الخديو عباس قوبل بصفافير استهجان متقطعة من جانب بعض الجمهور أثناء استقباله بعد عودته من الحج إلى مكة، وذهبت بعض التفسيرات إلى أن “الملك” عاد من رحلته حليق اللحية، وهو أمر يخالف توقعات الناس الذين تعودوا على اللحية كرمز لتدين ورجولة الحاكم خاصة بعد أداء فريضة الحج، لكن هناك تفسير آخر يرتبط بشائعات عن صديقته الكونتيسة “توروك”، التي اعتنقت الإسلام واتخذت اسم “جافيدان هانوم” (تنطق بالعربية جويدان هانم)، وهذه الخطوة ترجح أن الخديو اختار هذه “المرأة الأجنبية” بدلا من “زوجته الطيبة”، وبرغم أنه من الناحية الشرعية في دينه يستطيع الجمع في الزواج حتى أربع نساء في المرة الواحدة، إلا أنه استقر على طلاق زوجته الأولى وأم أطفاله الستة والزواج من الكونتيسة التي ستصبح بهذا الزواج ملكة على مصر..
(14)
تقرير سيشيني لم يتحدث عن ماضي الكونتيسة كما ورد في رسالة السير هايتر، لكنه استخدم لقبها الأصلي “توروك”، وهنا نصل إلى السبب الخفي في تعطيل أو تأجيل زواج الخديو الرسمي من الكونتيسة، وهو زواجها من بارون سويدي يدعي “أرثر فون كلينجسبور” وعدم حصولها على الطلاق حتى بعد زواجها الأول من الخديوي، والغريب أن هذه المعلومة (غير المحققة) راجت بشدة في معظم الصفحات العربية والمجرية على السواء، وتمتلئ بها مواقع الإنترنت مشفوعة بالصور ويتم التعامل معها كحقيقية نهائية مثبتة..
أوقعتني هذه المعلومة المنتشرة في حيرة كبيرة، خاصة وأن “جويدان هانم” لم تتطرق إليها في مذكراتها المنشورة، التي احتوت على فقرة زادت من حيرتي، وذلك عندما كتبت عن ثقل الماضي الذي يعوق طريق الانسان لتأسيس حياة جديدة يختارها..
قررت التنقيب عن الحقيقة الغائبة لأتخلص من التناقض الواضح بين الشكوك اللاأخلاقية التي فجرتها رسالة السير هايتر والشائعات التي تناولت سيرة الكونتيسة بالسلب، وبين ما استقر في عقلي ووجداني من انطباع لا يزيد عن سلوك امرأة متحررة تعشق السفر والمغامرة وتعيش على الطراز الباريسي في ذلك الوقت لدبها تقدير إيجابي للذات ولمكانة المرأة كإنسان كامل وحر، لذلك فضلت الطلاق على زواج لا يناسب صورتها عن نفسها كأديبة وفنانة وامرأة متحررة، قد تكون جامحة وغريبة السلوك ولديها طموحات غير محدودة ومندفعة أحيانا، لكنها ليست خائنة ولا تحب الخيانة..
وهذا ما نكشف عنه في المقال المقبل.
(يتبع)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* اسمه بالإنجليزية “لاجوس سيشيني” لأن الأسماء تكتب بالمجرية معكوسة وحرف j ينطق ياء، كما أن لقب “كونت” ينطق بالمجرية “جروف”، و”كونتيسة” تنطق “جروفنو”