في كل مرة ترتفع أصوات المدافعين عن مرتكب جريمة عنف ضد نساء، يظنها المرء في البداية -منكرا أذنيه- هسهسة قلة، حتى يراها وهي تتحول إلى حملة منظمة مسعورة لتبرئة المجرم، أصوات تسعى لكي تصم الآذان بصوتها وحدها، وهي ترفع عن بطلها المزعوم كل لوم وتعلق الذنب كله برقبة الضحية. لم تعد فقط إشارات ولا نذر لكارثة، بل كارثة حلت بالفعل. الدفاع ليس عن قاتل أو مغتصب، بل عن أحقية هؤلاء المدافعين في القتل أو الاغتصاب، أحقية كامنة ربما هم أجبن من أن يمارسوها، لكن في لا وعيهم يظهر ذلك المجرم كأنه فارس أحلامهم المكبوتة.
تلك الأصوات بقدر ما هي رسائل رعب للضحايا المحتملين، هي رسائل أمان للمدافعين عن القاتل أو المغتصب أنهم ما زالوا يحتفظون بالمزايا نفسها التي تضمن الحق في القهر، حق لا يستطيعون في الواقع دفع ثمنه أو تحمل عواقبه، فالنفوس صارت أجبن من القدرة على تمييز العدل أو حتى ارتكاب الظلم، لذا فالقاتل أو المغتصب هو امتداد لتلك الصورة الراسخة في خيالهم، التي لو توفرت لهم الظروف نفسها لن يستطيعوا ارتكاب الجريمة، لقد وجدوا الخسيس بالنيابة ولا حيلة لهم سوى تصويره كبطل، الجبان بالنيابة فتكلموا عنه كشجاع، نذل بالنيابة فرأوا فيه ماكرا داهية، فأر لا يثير إلا مشاعر الاحتقار، لكن قدرته على ارتكاب الجريمة تمنحهم الفرصة أن يخبئوا حقيقتهم كفئران مذعورة، لذا على الفأر المجرم أن يكون أسدا، لكن تلك الأمنيات التي تعكس تشوها، لن تكلل إلا بلحظة أمل كبرى، هي إفلات المجرم بالجريمة.
كل ما كانت تحتاجه جريمة قتل نيرة في شارع مزدحم في وضح النهار، هو فطرة سليمة أو حس عام، روح لا تفتقر للذوق أو التمييز، وهو أمر إن كنا نسخر من محاولة تثبيته في المسلسلات التليفزيونية في الثمانينات عن طبيعة ما للمصري، إلا أن تلك الروح كانت موجودة بالفعل وكانت تحفظ لنا شيئا من التماسك الجمعي.
اللافت أيضا، أن جريمة نيرة أبرزت جانبا قبيحا مما يمكن تسميته تجاوزا بالإعلام الشعبي، فهي المرة الأوضح التي يتدخل فيها سعار المحتوى الرقمي لعقد محاكمة للضحية، وهو محتوى يقدمه أشخاص ليسوا حتى هواة في مجال الإعلام يبحثون عن فرصة أو محاصرين من قبل الرقابة على الإعلام، بل مجرد أشخاص عاديين باحثين عن سبيل سهل لتحسين الدخل، عن طريق قنوات الفيسبوك وتيك توك التي تتيح تقديم محتوى مربح بتكلفة وأدوات لا تذكر، مجرد رجل أو امرأة يملكان هاتفا في غرفة مغلقة وفم لا يحتوي سوى الهراء، ما أقل كلفة الهراء وما أفدح نتائجه.
ذلك المحتوى في الأساس التقط الخط العام الذي عبر عنه قطاع لا يستهان به من الجمهور في تعليقاته الهيسترية على جريمة واضحة المعالم، ثم أعاد تغذيته ضمانا للرواج، لكن هذا الإعلام الفضائحي الذي يمارس بلا رقيب لم يخترع نفسه، بل وجد نموذجه في القنوات المصرية من قبل، برامج يتحدث فيها من يفترض فيه أنه ينتمي للمهنة، دون أدلة، هراء يحصل على رواتب ضخمة، برامج شوهت فيها خصوم دون أي منطق سوى شعبوية الردح السياسي، ومررت فيها أكاذيب ضخمة ونظريات مؤامرة تفتقر إلى منطق الفطرة، وابتلعها الناس، حتى غاب الفارق إن كان ما حدث هو تغييب متعمد لوعيهم، أم أن ما يسمعونه في التليفزيون هو ما أرادوا سماعه وقوله؟ ما يؤمنون به حقا؟.
بعض تلك القنوات التي لن أذكر اسمها، لم تحظ بأي شعبية قبل استغلال حادث نيرة، تعيد قتلها بالمنطق نفسه، الذي يرتكب فيه إعلام قنوات التليفزيون أو إعلام صحف خاصة مشهورة، جرائمه، الربح ومجاراة سلطة، سواء كانت رسمية أو سلطة جماهير.
تعتمد الفيديوهات “الشعبية” في إدانة نيرة أو أسرتها على فكرة واحدة في الأغلب، أسلوب حياتها، ملابسها، ما تظنه، ما تؤمن به أو ما تعتقده، كأن مخالفتها لفكرة سائدة أو عرف، أمر يستحق الذبح.
عند مرحلة معينة من تسبب الأنظمة في تردي روح شعبها وبعد عقود طويلة من تسوية تلك الروح بالأرض، لا يعود سؤال أيهما يستحق الإدانة، العفن أم صانعه مهما، الفقر أو الجهل أو ظروف الحياة التي تبرر لهم صناعة محتوى من الهراء بحثا عن المال لم يعد عذرا لقتلة نيرة من الجماهير.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا