وسط صراعات وصدامات شتى يبرز للبشرية تحدٍ من نوع آخر يتمثل في انعكاسات التلوث البلاستيكي المتزايد على الأنهار الرئيسية في أفريقيا التي أصبحت “خزانات صرف صحي” تُسرب للعالم بكثافة الأمراض والأوبئة عبر المحيط الأطلسي والهندي. ما يسبب أعباء إضافية على ضغوط تغير المناخ وتسارع الأخطار التي تجابه كل الكائنات الحية في هذه البلدان.
أفقر دول العالم في المياه النظيفة
من عجائب القارة السمراء الناشئة في أغلب الصناعات حتى الآن أن أكبر تهديداتها البيئية تجتاحها بسبب تلوث مياه الشرب. وانعكاسات هذا التلوث على البشر والنباتات والحيوانات. فالمياة النظيفة والصحية أحد أهم حقوق الإنسان الأساسية في كل بلدان العالم. لكنها تكاد تكون من الموارد النادرة في أفريقيا رغم تمتع القارة بمصادر هي الأغنى بين القارات في الأنهار والمياه العذبة.
تؤكد العديد من الدراسات أن تلوث المياه في أفريقيا آخذ في الارتفاع بالأنهار والسدود والبحيرات الطبيعية. والأمثلة كثيرة أبرزها في بحيرات شرق أفريقيا بداية من كينيا التي تمتلئ بمياه ملوثة غير آمنة ولا تصلح للاستهلاك البشري. حيث تختنق الآن ومنذ سنوات طويلة مياه بحيرة فيكتوريا ـثاني أكبر بحيرة للمياه العذبة في العالمـ ومعها بحيرة ناكورو بكل المخلفات التي تخطر على بال بشر.
وأدى التصنيع والزراعة وإلقاء القمامة وتصريف مياه الصرف الصحي إلى تلويث بحيرة فيكتوريا. لدرجة أن سكانها والمسؤولين المحليين يطلقون عليها خزان الصرف الصحي بسبب النفايات المنتشرة التي جعلت منها بؤرة خطيرة للأمراض والأوبئة. لا سيما وباء الكوليرا الذي يتنشر بسرعة كبيرة بين السكان.
في تنزانيا أيضا ـجنوب بحيرة فيكتوريا مباشرةـ المشكلة تفاقمت بشدة لافتقار البلاد إلى بنية تحتية توقف تدفق مياه الصرف بغزارة. ما أدى إلى تلويث البحيرة بالكامل. ترتب على ذلك تفشي كل أنواع الأمراض والأوبئة بين السكان.
والأزمة نفسها تدور في جنوب أفريقيا رغم ارتفاع مظاهر التحضر فيها مقارنة بجيرانها. إذ وصل تلوث المياه في نهر أومبيلو إلى حد تغيير لون المياه لدرجة غاب معها لونها الأصلي تماما.
التلوث والدعم الدولي
على مدار العقود الماضية لم تجد هذ البلدان أي تجاوب عالمي سريع قادر على حل الأزمة. مجرد مساعدات طفيفة باستثناء فرنسا التي حاولت عام 2018 عبر الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) إنقاذ بحيرة فيكتوريا بكل الطرق الممكنة. وقامت الوكالة بتركيب نظام للصرف الصحي المبسط وعززت محطات المعالجة. كما قامت ببناء مراحيض في المدارس.
لكن هذه المعالجات لم تغير كثيرا من الأوضاع التي أصبحت مثل الطاعون في أغلب بلدان غرب أفريقيا. بسبب تدني الثقافة والتعليم وانخفاض مستوى الوعي بين السكان. ما استدعى القيام بمهمة بحثية للوقوف على حجم الخطر ومعرفة أين يمكن البدء بالمساعدة وكيف ضمن جهود عالمية لحماية المناخ ووقف التلوث البلاستيكي.
مهمة بحثية
في مهمة بحثية قد تستغرق ما يزيد على خمسة أشهر. بدأت مجموعة من العلماء قبل نحو أسبوع دراسة كيفية تأثير التلوث البلاستيكي في الأنهار الرئيسية بأفريقيا وضغوط تغير المناخ على الكائنات الحية الدقيقة بالمحيط الأطلسي.
وتشمل الدراسة إجراء استطلاعات دقيقة من السفينة البحثية تارا البالغة من العمر 33 عامًا والتي وصلت إلى كيب تاون بجنوب أفريقيا يوم الجمعة الماضي قبل القيام برحلة استكشافية على طول ساحل غرب أفريقيا.
المهمة الأساسية للباحثين تكمن في تحليل منسوب التلوث البلاستيكي عند مصبات الأنهار الأفريقية الرئيسية “الكونغو ـ أورانج ـ جامبياـ السنغال”. وستلقي السفينة البحثية شباك يصل ارتفاعها إلى 1000 متر تحت سطح المحيط الأطلسي لجمع عينات من النظم البيئية وتحليلها في المختبرات. بينما ستتيح البيانات التي تم تجمعيها الإجابة عن الأسئلة الأساسية حول مستوى التلوث في محيطات الكوكب.
سر تخوف العالم من تلوث أنهار أفريقيا
لأنها تبتلع عناصر غذائية أكثر من أي مكان آخر في العالم. وهذا جعلها تُصدر ما يسمى بالتيار الصاعد قبالة سواحل السنغال. وجرى تصنيفه أنه ثالث أقوى تيار صاعد في العالم بعد بينجيلا وبيرو -حسب التقارير الصادرة عن اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة.
وترتبط المخاوف العالمية من التيار الصاعد في أفريقيا بأزمات المناخ التي يعانيها الكوكب. إذ يتسبب هذا التيار في تزايد درجات حرارة مياه الأنهار. التي ترتبط عادة بارتفاع درجات حرارة الهواء. ما يسهم في الاحترار العالمي. بجانب انعكاسات ذلك على عمليات النظام البيئي والإنتاجية البيولوجية وسُمّية الملوثات وفقدان التنوع البيولوجي المائي.
ما يثير القلق أيضا أن السفنية البحثية تارا تدخل هذه السواحل للمرة الأولى. وستعاني بالطبع من قلة البيانات والشفافية حول النظام البيئي. وإن كان ذلك لن يعيق الباحثين في العثور على أدلة مادية تثبت وجود درجة عالية من التلوث بمصادر المياه العذبة في بلدان معروف عنها إلقاء كل أشكال المواد الملوثة في المسطحات المائية. بما يجعل المياه وفقا للمعدلات العالمية غير صالحة للاستعمال وتسهم في تسميم النظام البيئي الذي توجد به.
نصيب الغرب في التلوث مياه أفريقيا
رغم الجهود الغربية الكبرى لمكافحة التلوث البلاستيكي في الأنهار الأفريقية فجزء من هذه الجهود ضريبة أخلاقية تدفعها إقرارًا بالمسؤولية عن جزء من هذا التلوث. الذي لا يسأل عنه الأفارقة وحدهم. بل الشركات العملاقة وبعض البلدان الغربية التي تعودت منذ عقود على شحن آلاف الأطنان من النفايات البلاستيكية والتخلص منها في بلدان أخرى. سواء لعدم رغبة الغرب في تلويث نظامه البيئي أو لضعف قدرة بعض البلديات على مجابهة الزيادة الكبرى في النفايات.
وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية على رأس البلدان التي أخفت نفاياتها طويلا في بعض بلدان أفريقيا وآسيا. وكانت الصين على رأس الدول التي استقبلت طوال عقود ما يقرب من 70% من النفايات الأمريكية. لكن بعد تفوقها واستشعارها حجم الكارثة أغلقت أبوابها أمام معظم البلاستيك الأمريكي منذ عام 2018.
التلوث والفساد
أما البلدان الأفريقية فاستمرت في استقبال النفايات بسبب النظم البيئة الهشة وفساد الحكومات الذي أدى إلى منح الصناعات الأجنبية حق تلويث المياه دون أي مساءلة. قبل أن تتحول أزمة النفايات إلى قضية عالمية بسبب تسرب المواد البلاستيكية للمحيطات. لا سيما الأطلسي والهندي. واندفاع كميات هائلة من المياه الملوثة بالبلاستيك عبر الأنهار والروافد المختنقة بالزجاجات وغيرها من المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد للمياه الدولية.
أصبح تلوث المياه الناجم عن البلاستيك يؤثر على الحياة البحرية بشكل أكثر حدة. حيث تختنق العديد من الكائنات التي تعيش في البحر حتى الموت بسبب اللدائن الدقيقة وتأثيرات المياه الملوثة المليئة بالمواد الكيميائية الضارة. ما دفع العديد من المؤسسات المعنية بالأزمة في البلدان الغربية إلى قيادة حملات موسعة والضغط على حكوماتها لفرض حظر كامل على إنتاج العبوات البلاستيكية سواء في استيرادها أو تصديرها.
واكب ذلك ضغط عالمي لضم المزيد من البلدان الأفريقية إلى معاهدة البلاسيتك العالمية التي يتم الحشد لها الآن. وأيد في مارس الماضي رؤساء دول ووزراء للبيئة وممثلو 175 دولة قرارًا في جمعية الأمم المتحدة للبيئة UNEA-5 للتفاوض على اتفاقية دولية ملزمة قانونًا لإنهاء التلوث البلاستيكي قبل نهاية عام 2024.
تعتبر الاتفاقية التي تتوج سنوات من المفاوضات صكا دوليا ملزم للحكومات والشركات الكبرى والقطاع الخاص في البلدان المختلفة. وذلك للعمل على إنتاج دورة حياة كاملة للبلاستيك. بداية من إنتاجه وتصميمه نهاية بكيفية التخلص منه. وهذه الاتفاقية يعتبرها نشطاء أهم صفقة بيئية متعددة الأطراف منذ اتفاقية باريس للمناخ. والتي اتضح مؤخرا للعالم أجمع أهميتها القصوى بعد سنوات طويلة من الهجوم عليها والوقوف ضدها من قبل الشعبويين وأصحاب المصالح!.