مثل رياح عاتية تتحرك يمنيًا ويسارًا، صعودًا وهبوطًا تأخذ في طريقها الأخضر واليابس، تحني ظهورًا، وتفسح الطريق لغيرها، هكذا هي الثورات، وما تفعله بالمجتمعات، ونحن بصدد الحديث عن الدراما لا يمكن فصل الفن هنا عن السياسة فكلاهما وجهان لعملة واحدة، فبعد كل ثورة تظهر ملامح جديدة للمجتمعات يترتب عليها عالم فني جديد، غالبًا ما يكون ثري بفنونه نتيجة الأحداث السياسية والمجتمعية الجديدة التي تطرأ على المجتمع، إلا أن ثورة يناير كانت مُختلفة حتى في تبعاتها، فظهرت بعدها حالة من الاضطراب في المجال الفني، وإن صح القول حالة من الفراغ.
يُعد عام 2011، هو الأكثر قسوة على الدراما، فبعد أن كنا بصدد صناعة نجم وأكثر للعمل الواحد، صار الجمهور أمام دراما هشة، خالية من الهدف تارة، وتارة أخرى أعمال بلا نجوم، ولا حوار، إلا نادراً.
رصدت دراسة بحثية للنقد الفني بجامعة حلوان، تراجع حاد فى الإنتاج الفني خلال عام 2011، من حيث الكم، فلم يتجاوز عدد المسلسلات التي تم إنتاجها 35 عملًا، وهو ما يوازى تقريبًا نصف عدد المسلسلات المُنتجة في العام الذي يسبقه، وظن القائمين على صناعة الدراما أن هذا التراجع ما هو إلا حدث عارض نابع من حدة الأحداث، ولن يدوم طويلًا إلا أن ما حدث فاجئ الجميع.
يناير بين التوثيق والاستغلال
بعد ثورة 25 يناير ظل التأثر موجود، فاتجه الكثير من الكُتاب والمخرجين إلى تناول أحداث الثورة وما تبعها من تقلبات اقتصادية واجتماعية، كما استغل الكثيرين الثورة من أجل عرض أعمالهم، أو بمعنى آخر يبحثون عن أي فرصة للزج بإسم يناير ومشاهده، كما حاول البعض توثيق الأوضاع بشكل مهني بعيدًا عن الفبركة بما يخدم النص المكتوب في كل عمل وفكرته.
من أكثر الأعمال الدرامية، التي ناقشت ثورة يناير بمُنتهى الموضوعية، وعرضت الأحداث ووثقتها كان مسلسل “أستاذ ورئيس قسم”، للكاتب يوسف معاطي، الذي عُرض في شهر رمضان عام 2015، بطولة النجم عادل إمام، وتدور أحداث المسلسل حول أستاذ يساري يعمل داخل كُلية الزراعة بجامعة القاهرة.
قدم المسلسل، جزءً كبيرًا من الأحداث السياسية التي شهدتها مصر خلال فترة الثورة وتبعاتها، إلا أن المسلسل تميز بطابع كوميدي، يعرض بمنتهى البساطة حياة ومشاكل المواطنيين الاجتماعية والاقتصادية خلال تلك المرحلة، شارك البطولة النجوم نجوى إبراهيم وأحمد بدير وعبد الرحمن أبوزهرة ومحمد الشقنقيري ولقاء سويدان ورشوان توفيق وصفاء الطوخي ورشا مهدي وضياء الميرغني وأحمد حلاوة وأحمد بدير وهيثم أحمد زكي، المسلسل من إخراج وائل إحسان.
من الأعمال التي ناقشت ثورة يناير، أيضًا كان مسلسل “طرف ثالث”، الذي بدأت حلقاته باندلاع ثورة يناير، إلا أن باقي الحلقات تناولت المرحلة الانتقالية، وركزت على شكل العلاقة بين الشعب المصري ورجال النظام السابق في مصر، وكان من أوائل المسلسلات التي ناقشت ما حدث خلال تلك الفترة، وغيرهم الكثير من الأعمال.
حُصان المهرجانات الرابح
من أكثر الحيل التي لجأ لها المُنتجين عقب ثورة يناير ليظلوا موجودين على الساحة هي اللجوء للأعمال الفنية المرتبطة بالاستعراضات والمهرجانات، ورغم انتشار المزج بين الستعراضات والدراما سواء في السينما أو التليفزيون منذ زمن بعيد على يد سعاد حسني وشيريهان، ونيللي، إلا أن ما يقدم حاليًا وفي آخر 10 سنوات يبعد عن الغرض الحقيقي من دمج الاستعراض بالدراما، فثمة إشتراك في المسميات، لكن الإختلاف كبير من حيث الشكل والمضمون .
ضحك باكي
بالرغم أن الرهان على الفن الكوميدي، ودوره في جذب الجهور كان دائمًا رهان رابح، بل ومن أنجح الخلطات في الحقبة الفنية السابقة على الثورة إلا أن ما حدث بعد 25 يناير هزم القاعدة تماماً، فمع لجوء عدد كبير من الفنانين على الأعمال الكوميدية انقلب السحر على الساحر وأصبحت الأعمال المقدمة تفتقد إلى حد كبير هدفها سواء في اضحاك الجمهور او في توصيل الرسالة الجادة الصامدة خلفه، كلاهما فشل في جذب انتباه المشاهدين، بعد أن عجزت جميع الأعمال الكوميدية أو معظمها بعد ثورة يناير فى رسم بسمة على الوجوه التي أتعبها تلاحق الأحداث فى الشارع، فيما بدت معظم هذه الأعمال بالملل والتكرار، أحد نماذج فشل الخلطة الكوميدية كان عمل عريس دليفري ومسلسل جوز ماما والجزء السادس من مسلسل راجل وست ستات، وغيرها من الأعمال التي اتخذت نفس الطابع.
استغلال يناير
بعد فشل الخلطة الكوميدية، كان من الطبيعي تجريب أداة جذب جديدة وهي الاقحام، قام بها عدد من الفنانين استغلالًا لثورة يناير، فأصبحت مشاهد الثورة الحجر اللامع في عيون الجميع، يضعونه في مقدمة الأعمال أو نهايتها لا يهم، المهم أن يحتوي العمل على مشهد أو أكثر للمظاهرات والوقفات، يلي ذلك الدخول للحبكة الدرامية التي لا يهم ضبطها على الإطلاق بقدر ما يهم ربطها بأحدث يناير.
من تلك الأعمال كان مسلسل “آدم”، الذي وجهت له انتقادات عدة بعد أن أظهر لقطات لثورة يناير فى نهاية آخر حلقة بعد قتل بطله آدم على يد ضابط أمن الدولة، وهي نهاية مشابهة لمسلسل دوران شبرا ومسلسل شارع عبدالعزيز، الذى اقتصر التلميح فيه عن الثورة من خلال عبارة على لسان أبطالها.
تغيير العقلية
على صعيد متصل يرى بعض النُقاد والقائمين على الصناعة، أنه ليس من الغريب أن تُضاف الثورة للعديد من الأعمال الدرامية التي تم تصويرها بعدها فالفن له هدف تجاري بجانب هدفه الإنساني، إلا أن الجديد أن لا يراعي هؤلاء الصناع فكرة احترام عقل المواطن، الذي لا يمكن أن يصدق أن يظهر مواطن يلقي التحية إلى الرئيس الراحل حسني مبارك في نهاية فيلم اسمه “الفيل في المنديل”، فلا مجال لأي منطق في إقحام مشاهد من الثورة في هذا الفيلم، فلماذا تم الزج بها، وكأن الهدف الرئيسي هو المزج بين أي عمل والثورة، وهو ما يفسره استاذ النقد الأدبي بجامعة القاهرة، أنه فقر مهني، قائم على الحالة النفسية المضطربة التي عاشها البعض خلال أو بعد الثورة، نتج عنها فقر في الإبداع بشكل ملحوظ، وهو مستمر إلى الآن بالرغم من تميز بعض الأعمال مؤخراً إلا أنها لم ترتقي إلى الآن لتصبح رائدة في مجالها.