لا تعبأ الكثير من الاقتصاديات الكبرى، حاليًا، بارتفاع مستوى الديون أو الخطوط الحمراء الأبجدية التي يجب التوقف عندها عن الاقتراض. ذلك شرط أن ينمو الاقتصاد ويستطيع الوفاء بالتزاماته، وأن يشعر الدائنون بالثقة، ويواصلون استثمار أموالهم في الأدوات الحكومية، أيًا كانت آجالها الزمنية. سواء أكانت أذون خزانة قصيرة أم سندات طويلة.
ارتفع إجمالي الدين العالمي بمقدار 3.3 تريليون دولار في الربع الأول من 2022 لتصل إلى 305 تريليونات دولار لتعادل 348% من الناتج المحلي العالمي. وفي صدراة المقترضين كانت أكبر الاقتصاديات؛ فحصة أمريكا وحدها (سواء الحكومة والمؤسسات والأفراد) بلغت 1.8 تريليون دولار في 3 أشهر. ما يعادل 600 مليار دولار شهريًا.
في مقدمة الدول التي تفاقم ملف الديون لديها، اليابان التي سجلت رقمًا قياسيًا للدين العام في 2021 عند 9.5 تريليون دولار، تعادل 1.24 كوادريليون من عملتها المحلية “اليِن”. والكوادريليون هو مليون مليار، أو بلغة الأصفار واحد + 15 صفرًا.
لم تفضل طوكيو تعديل السياسة النقدية ودعم عملتها “الين” الذي يُتداول عند أدنى مستوياته في 20 عامًا مقابل الدولار، وفضلت طرح السندات. وهي تواصل السياسة ذاتها خلال العام الحالي باستهدافها طرح 36.9 تريليون ين (280 مليار دولار) خلال العام الحالي.
واليابان، التي تحتل مرتبة ضمن أكبر خمسة اقتصاديات في العالم، تبلغ نسبة الدين العام للناتج المحلى 266%. ما يعني أن ديونها ضعف ناتحها المحلي مرتين ونصف.
وتواجه البلاد شبح تخفيض تصنيفها الائتماني حاليًا. فالدين العام الكبير تصاحبه شيخوخة القوى العاملة وركود بسوق العمل واعتماد على عمالة مهاجرة لشغل وظائف منخفضة المهارات. ما يمثل مشكلة لسمعة المنتج. إذ إن طوكيو تنافس الصين في جودة منتجاتها وليس أسعارها.
مع واحدة من أدنى معدلات المواليد في العالم، نفذت الحكومة اليابانية مجموعة متنوعة من الحوافز عالية القيمة للأزواج الشباب لإنجاب الأطفال. وتشمل المزايا الحكومية المقدمة شيكات المساعدة المالية لكل طفل على حدة، وتكاليف التعليم المدعومة بسخاء على أمل زيادة حجم القوى العاملة.
الدين ليس المشكلة
على الجانب الآخر من العالم، توجد تجربة أخرى تتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية التي تجاوز الدين العام بها 30 تريليون دولار، للمرة الأولى على الإطلاق. فبينما ارتفع الدين العام الياباني في 2021 بما يزيد بـ 190 مليار دولار عن 2020 قفز الدين الأمريكي بنحو 7 تريليونات دولار منذ نهاية 2019 .
تحديات الدين الأمريكي ليست في ضخامته فقط. لكن في سعر الفائدة المتوقع أن ترتفع معه تكاليف الاقتراض. ففائدة الدين وحدها تبلغ 5 تريليونات دولار على مدى السنوات العشر المقبلة. وستصل لما يقرب من نصف إجمالي الإيرادات الفيدرالية بحلول 2051، بسحب تقديرات المؤسسات الرسمية الأمريكية.
رغم أن اليابان هي أعلى الدول المتقدمة في ملف الدين. لكن من ضمن أكبر الدائنين الولايات المتحدة مع الصين. واشنطن وحدها مدينة لليابان بنحو 1.5 تريليون دولار، وللصين بحوالي 1.1 تريليون دولار.
الدين الأمريكي يثير الجدل الداخلي دائمًا، بسبب وضع حد أقصي للدين عند 28.4 تريليون دولار، وحد تشريعي لمبلغ الدين القومي الذي يمكن أن تتحمله الخزانة الأمريكية سنويًا. ما يحد من مقدار الأموال التي قد تقترضها الحكومة الفيدرالية ويحتاج رفعه إلى موافقة مجلس النواب. وهو أمر يضع وزارة الخزانة في مواجهة عدة مشكلات، منها نفاد احتياطاتها النقدية، ورفض النواب تمرير الرفع، آخرها نهاية العام الماضي.
تلجأ الحكومة الأمريكية لمواجهة عجز الموازنة إلى زيادة الضرائب أو تقليل النفقات الحكومية أو الاقتراض. والخيار الأخير هو الأفضل بالنسبة لها بسبب الإقبال الشديد على السندات الحكومية سواءً داخل أمريكا أو خارجها، ما يجعل الاقتراض متاحًا.
التزام روسي بمبدأ تخلى عنه الجميع
على عكس أمريكا واليابان لدى روسيا سياسة تقوم على ضبط الدين الذي بلغ مستوى 453.5 مليار دولار في أبريل الماضي، وتراجع في الربع الأول من العام الجاري بنسبة 5.5% أو بواقع 26.5 مليار دولار، لكنه لا يزال أعلى من مستوى 302.2 مليار دولار عام 2021 وبلغ حينها 17.02٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
بحسب وزارة المالية الروسي، فإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لروسيا لا يجب أن تواصل الارتفاع عن 20٪، وتبلغ القروض الخارجية على موسكو حوالي 40 مليار دولار مقومة بالدولار واليورو، يمتلك حوالي نصفها مقرضون أجانب، بما يشمل بنوكًا وصناديق تقاعد واستثمار، يضاف لها نحو 28 مليار دولار قروض مقومة بعملة الروبل الروسية.
تمتلك البنوك الفرنسية نحو 4.5 مليار دولار من السندات الحكومية الروسية، ومستثمرون أمريكيون 3.8 مليار دولار، ونمساويون 3.2 مليار دولار، وإيطاليون 2.6 مليار دولار، وبنوك بريطانية نحو 520 مليون دولار.
المقارنة بين الدين الروسي والأمريكي تظهر أن موسكو لديها محفظة ديون متنوعة على عكس واشنطن التي تتحكم الصين واليابان في محفظة ديونها فالبلدان الآسيويتين تمتلكان معًا، ما يقترب من ثلث السندات الأمريكية.
منذ نهاية التسعينيات انتهجت موسكو سياسة مالية لخفض نسبة الدين للناتج المحلي ليهبط من مستوى 135.1% عام 1998 إلى 92% خلال 1999 ثم اتخذ مسار تنازلي حتى سجل أدنى مستوى في خضم الأزمة المالية العالمية عام 2008 إلى 7.45% قبل أن يرتفع مجددًا بين 10 و17% خلال عقد (2010 _ 2020).
انفتاح الكبار على الاقتراض
لدى الصين تجربة أخرى، فديونها بلغت 2.7 تريليون دولار أمريكي بنهاية سبتمبر الماضي 2021 وهي آخر أرقام رسمية متاحة من الهيئة الوطنية للنقد الأجنبي لكن ذلك الرقم أعلى بنحو 16.7 مليار دولار عن يونيو/حزيران من العام ذاته.
بلغ إجمالي الدين العام للحكومة البريطانية 2.4 تريليون جنيه إسترليني نهاية عام 2021 ، أي ما يعادل 102.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي ؛ لكنها تؤكد أن تلك النسبة أقل بنحو 34.5 نقطة مئوية من متوسط ديون الدول الأعضاء في مجموعة السبع.
في فرنسا، لا يختلف الامر كثيرًا فالحكومة تتوقع ارتفاع معدل الدين العام إلى 116.8% خلال 2022 ثم 117.5% عام 2023 ثم 117.8% عام 2024 ثم يسجل 117.4% عام 2025، لكن جابرييل أتال، وزير الموازنة الفرنسي الجديد قال في خطاب أثناء توليه منصبه قبل اسبوعين: ” لدينا معركة لا هوادة فيها في حساباتنا العامة .. يجب على فرنسا أن تظل على طريق تخفيض الديون لأنها حاسمة بالنسبة لمتانة اقتصادنا والثقة في بلدنا ومستقبل أجيالنا الشابة”.
معيار الـ 60% من الناتج المحلي أصبح باليًا
تظهر بيانات صندوق النقد الدولي أن الاقتراض العالمي قفز بمقدار 28 نقطة مئوية وبلغ 256% من إجمالي الناتج المحلي في 2020. وساهمت الحكومات بنحو نصف هذه الزيادة، والشركات غير المالية والأسر بالبقية.
وواصل الدين العالمي الارتفاع بوتيرة أسرع، بمقدار 3.3 تريليون دولار إلى رقم قياسي جديد بأكثر من 305 تريليونات دولار في الربع الأول من عام 2022 الحالي، وفقًا لمعهد التمويل الدولي (IIF).
يمثل الدين العام الحكومي ما يقرب من 40% من مجموع الدين العالمي. وهي أعلى نسبة بلغها على مدار حوالي ستة عقود. وكان انخفاض تكاليف خدمة الدين حتى وقت قريب يهدئ المخاوف من ارتفاع الدين العام للاقتصادات المتقدمة إلى مستويات قياسية. لكن حمي رفع الفائدة لمواجهة التضخم ربما يسبب العديد من المشكلات المستقبلية.
الأرقام التي يسجلها الدين العام حاليًا تشير إلى أن قاعدة بقاء حجم الديون عند أقل من 60% من ناتج الدولة الإجمالي أصبحت من ذكريات التراث الاقتصادي، حتى وإن كانت المفوضية الأوروبية تحافظ عليها نظريًا بميثاق الاستقرار والنمو (SGP).
(SGP) هي مجموعة من القواعد التي تحكم تنسيق السياسات المالية لدول الاتحاد الأوروبي، في مقدمتها عدم تجاوز عجز الموازنة 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي؛ وعدم تخطي الدين مستوى 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
لكن ألمانيا، مصدر الثقل في الاقتصاد الأوروبي وحامي قواعد المفوضية الأوروبية، تخطط حاليًا لزيادة الديون الجديدة بمقدار 39.2 مليار يورو هذا العام لتخفيف وطأة تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا. إذ ارتفعت الديون السيادية لألمانيا في 2021 بمقدار 162 مليار يورو، لتصل إلى 2.476 تريليون يورو، بحسب حسابات البنك المركزي الألماني.
وارتفعت نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي عام 2021 بمقدار 0.6 نقطة مئوية لتصل إلى 69.3%، لتتجاوز ألمانيا للمرة الثانية على التوالي الحد الأقصى “60%” المنصوص عليه في معاهدة ماستريخت.
ما المخاطر التي تواجه الدول المستدينة؟
في عُرف الاقتصاديين حاليًا، فإن الاقتراض مرتبط بالسداد وطالما لدى الحكومات تلك القدرة فلن يعوق حجم الديون المزيد من الاقتراض. ولن يضر بالتصنيف الائتماني للدولة المقترضة. واليابان وأمريكا على سبيل المثال تقترضان دون مشكلات. نظرًا لأنها تمتلكان احتياطيا نقديا كبيرا، وقدرة مستمرة على توفير العملة بسبب ارتفاع حجم التصدير للخارج.
يعتبر البعض القدرة على الاقتراض شهادة ثقة في قوة الاقتصاد. ومنهم وانج تشيون يينغ، نائبة مدير الهيئة الوطنية للنقد الأجنبي بالصين. تقول إن حيازة السندات المقومة باليوان يعكس إنجازات انفتاح سوق السندات الصينية وثقة المستثمرين في الآفاق الاقتصادية للبلاد.
لكن صندوق النقد يرى مخاطر كبيرة في نمو الدين العالمي. وطالب صناع السياسات باتخاذ منهج تعاوني لتخفيف أعباء الديون عن أكثر البلدان عرضة للمخاطر. إلى جانب تعزيز استدامة القدرة على تحمل الدين، وتحقيق التوازن بين مصالح المدينين والدائنين.
بحسب الأبجديات الاقتصادية فإن الاقتراض ليس ضارًا على طول الخط. فالمحك هو كيفية توجيه المبالغ المقترضة. فإذا ما تم صرفها على الاستثمارات الحيوية في البنية التحتية والصحة والتعليم والطاقة الإنتاجية؛ فإنها تدر عائدًا يغطي عبء الفائدة ويدفع النمو.
المشكلة تحدث حينما تفترض الدول بإفراط، ويتم توجيه المبالغ لأنشطة استهلاكية لا تدر عائدًا، أو لمواجهة صدمات اقتصادية كالتحولات المفاجئة في اتجاه التدفقات الرأسمالية. ما يضعف قدرته على سداد الدين. وتلك المشكلة الأخيرة تعاني منها الآن بعض بلدان الأسواق النامية وليس المتقدمة.
المشكلة الأكبر أن الحكومات ليس لها بديل في حالة انخفاض الموراد (الإيرادات) والاستخدامات (المصروفات) إلا برفض الضرائب بما يكفي لتغطية إنفاقها. وهو أمر غير مستحب لأسباب سياسية. فالطبع لن يحظى بشعبية لدى الناخبين. وحتى إن غامرت فإن الضرائب تسبب مشكلة أيضًا. ورفعها يعطي شكلًا تقشفيًا. كما أنه يقلل قدرة الأفراد على الإنفاق على شراء السلع فينكمش الاقتصاد ويقل الاستثمار والنمو.